رأس المال ومفهوم العمل المستدام
سلام الربضي
تطرح التغيّرات العالمية على الصعيد الاقتصادي والسياسي تساؤلات عدة حول العديد من المفاهيم والنقاشات الدائرة حول واقع العمال العالمي، في وقت لم يعد بالإمكان اعتماد المقاربات التقليدية في تحليل ودراسة الظواهر الجديدة في عالمنا المعاصر. إذ أنّ التعامل مع التنمية من قبل الاقتصاديين، على أساس أنّ لا علاقة لها بالأفكار السياسية وفلسفة الحكم، وكأنها ليست أكثر من تمرين في الاقتصاد التطبيقي، أمر في غاية الخطورة. فقد حان الوقت كي يتمّ الجمع بين النظريات السياسية والاقتصادية، وذلك ليس فقط لاعتبار الطرق التي يصبح فيها المجتمع أكثر إنتاجاً، ولكن لاعتبار جودة المجتمعات التي من المفروض، أن تصبح أكثر إنتاجاً لتنمية البشر، بدلاً من تنمية الأشياء.
إذ لا بدّ من الإشارة إلى إشكالية جدلية العلاقة بين عالم العمل والتنمية المستدامة ورأس المال. فثمة أسئلة لا بدّ من التفاعل معها ومحاولة تقديم الأجوبة عليها أبرزها: هل سيقود التطور الاقتصادي إلى رفاهية مجتمعية جوهرها الارتقاء بمبادئ المواطنية والعدل الاجتماعي؟ وما هو أفق مفهوم التنمية المستدامة: أفق الإنسان الفرد أم التكافل المجتمعي؟
لم يعد مجدياً النظر إلى الاقتصاد من باب الزيادة الرقمية للإنتاج القومي أو الدخل الفردي فحسب، بل لا بدّ من بناء أساس مادي علمي وتقاني، قرين فكر وثقافة جديدين، تكون دعامته قائمة على الاستثمار في رأس مال القدرة البشرية، بدلاً من رأس المال البشري، وذلك كهدف وأساس للتنمية المستدامة. فعلى سبيل المثال، النظرة إلى المستقبل الزراعي، هي نظرة تقع الزراعة فيها تحت سيطرة الشركات الزراعية لكبيرة، وتقوم على تفريغ الأراضي من الفلاحين، أي أنها عملية الإلغاء التدريجي لنمط الإنتاج الزراعي. فالمزارع يخسر حالياً هويته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، كمنتج وكعامل، ليتحول إلى مجرد مستهلك. إذ يبدو أنّ انقراض طبقة العمال الفلاحين، كان هو التغيير الاجتماعي الأكثر دراماتيكية وشمولية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ومن هنا، تأتي أهمية التمعُّن في كيفية مساهمة العمل في تعزيز التنمية المستدامة، في ظلّ تغيّرات متسارعة تطال عالم العمل، وذلك انطلاقاً من مفهوم واسع للعمل، لا يقتصر على الوظيفة، بل يتجاوزها إلى تعميق الصلة بمفهوم العمل المستدام. إذ أنّ ما بين العمل والتنمية ليس صلة تلقائية، فالعمل يسهم في تعزيز التنمية البشرية عندما توسّع السياسات فرص العمل المنتج، وتصون حقوق العاملين وسلامتهم ورفاهيتهم. وهذا كله يتطلب وجوب بناء فضاءات إنسانية، لاعتماد عقد اجتماعي جديد، قادر على مواجهة التحديات العالمية المرتبطة بجدلية التفاوت ما بين مراكمة ثروة رأس المال ومراكمة فقر العمال. فإذا أخذ بعين الاعتبار أنّ النسبة الكبرى من المواطنين هم فلاحون أو عمال أو موظفين يعملون بأجر، يمكن القول إنّ الاقتصاد لم يعد يعمل لمصلحة المجتمع المستدام. وبناء على ذلك، من البديهي، أن تؤدي الهوّة بين مُلاّك الثروة من ناحية، ودخول العمال من ناحية أخرى، إلى تزايد الشكوك حول سلامة المجتمع ووحدته.
يشهد النظام الاجتماعي العالمي حالياً، أزمة ذات أبعاد مختلفة: بعد اقتصادي قائم على الركود، وبعد سياسي يتصل بهيكل وموازين علاقات القوة. فلم يعد مقبولاً ًالتعاطي مع هذا الواقع المتأزم لأسواق العمل، من منطلق أيديولوجي يعبّر عن مجرد موقف الرفض، من دون وجود برنامج عملي. فأكثر ما يقلق قوى السوق هو أن يضطروا إلى تحديد موقفهم من مشروع عالمي اجتماعي. فمثلاً، يمكن اعتبار مقترحات الدول النامية في منظمة التجارة العالمية، تسمى بالنموذج رقم 4 والتي تهدف إلى الفوز بتنازلات تمنح عمالها حرية تنقل أكبر لعرض خدماتهم في أسواق الدول المتقدمة، خطوة في الاتجاه الصحيح، لتحقيق الكثير من المكاسب العمالية. فعلى عكس الكلام البليغ السائد حول جنوح الرأسمالية، فإنّ ما نشهده أمام أعيننا، هو محاولة ولادة نظام توازن بين رأس المال وعالم العمل، حتى لو كنا لم نتجاوز بعد لا تساؤلاتنا ولا شكوكنا.
وفي هذا الإطار، هنالك حركات نقابية واجتماعية فاعلة وذات نفوذ عالمي، على الرغم من كلّ ما يشوبها من التباسات. وهي الآن تقوم بمعارضة حادة، ضدّ حتمية سيطرة الرأسمالية المطلقة، وتحاول تقديم رؤية واضحة لإعادة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الضروري، من أجل خلق حالة من الاستقلال النسبي، عن قوى رأس المال، لتكون قادرة على التغيير، ولتؤكد أنّ العمال والفلاحين والموظفين، ما زالوا يشكلون العمود الفقري للمنظومة الاقتصادية العالمية.
ومع أنه، لم يتبلور بعد أي بديل استراتيجي منسّق ومتكامل، يمكن أن يقارع النمط الرأسمالي الفكري المسيطر حالياً، إلا أنّ هامش الحركة المتاح للمجتمع هو دائماً أوسع بكثير، من ذلك المُتاح للاقتصاد. وقد يكون هذا التصوّر بادرة أمل، حيث إنّ مصير المجتمع هو بين أيدي أبنائه، وقانون الجاذبية الاقتصادية يفعل فعله الطبيعي، على صعيد النموذج الاجتماعي، فهو يكيّفه ولكنه لا يحدّده. ونحن الآن نعيش عصر اقتصاد المعرفة، لكنّ مجتمع اقتصاد المعرفة ما زال أرضاً مجهولة، يمكن بناؤها على أساس منطق إنساني متين. ولتكن أولى تلك الأسس المتينة قائمة على محاولة الإجابة على التساؤل المنطقي التالي: لماذا هناك الكثير من الأفكار عن كيفية توزيع الدخل وليس عن كيفية توليد الدخل؟
باحث ومؤلف في العلاقات الدولية ـ إسبانيا