موسكو أولاً
د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجية السورية
يشكل إعلان المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا عن نيته البدء بمشاورات لعقد جنيف جديد للوصول لحل سياسي للأزمة السورية إيذاناً بحقيقتين، الأولى أن ثمة ما جرى أعاد الأمل بوجود فرص للوصول إلى حل سياسي، والثانية أن ثمة ما يستدعي تدخل الجهد الأممي لتذليل العقبات التي اعترضت في الماضي ولا تزال تعترض هذا الطريق.
منذ فشل جنيف بنسختيه الأولى والثانية، ومن ثم تعقيد مساعي السيد دي ميستورا الخاصة بتجميد النزاع في حلب ومحاولات تخريبها، كان واضحاً أن هناك دوراً خارجياً يقف عقبة أمام تسهيل التوصل لحل سياسي في سورية، وأن هذا الدور الخارجي تتولاه الدول التي تناولتها قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بمكافحة الإرهاب الذي يستهدف سورية، خصوصاً القرار 2170 والقرار 2178 والقرار 2199، والمعلوم أن تركيا والسعودية وقطر والأردن و«إسرائيل» يقفون في مقدم هذه الكيانات المعنية بتنفيذ هذه القرارات والممتنعة عن ذلك، وتفضح التصريحات المعلنة لعدد من قادتها حجم تورطها مع التنظيمات الإرهابية.
الرهان على دور الإرهاب كما وصفه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ذات مرة، للفوز بالحرب على سورية، وإشارته لتورط دول الخليج وتركيا، وعموماً سائر أصدقاء أميركا في المنطقة، يقدم بالأسماء للمبعوث الأممي العناوين الواجب التوجه نحوها لتنفيذ هذه القرارات.
ثبت أن هذا الرهان الذي تحدث عنه بايدن كان وراء هذا التوسع بانتشار وتجذر الإرهاب وتشكيلاته من جهة، وكان وراء سعي الدول الراعية والداعمة للإرهاب لتعطيل أي حل سياسي أملاً بمنح المزيد من الوقت لتحقيق الهدف الذي يحلمون ببلوغه وهو وضع اليد على سورية أو تخريبها كحد أدنى، والعناوين حدّدها بايدن بالاسم وتمتلئ الصحافة الغربية بالتقارير الموثقة عن حجم تورّطها، بتقديم الدعم والرعاية، وهكذا كان جنيف بنسختيه الفاشلتين ومن بعده خطة دي ميستورا لحلب ضحايا هذه الرهانات وأصحابها.
جاءت مساعي موسكو الحميدة لتقريب وجهات النظر بين الحكومة السورية، وعدد من فصائل المعارضة التي شاركت في جولتي الحوار اللتين شهدتهما موسكو، وثبت أن عدم مشاركة الذين يتلقون التعليمات لإفشال الحوار وتعطيل الحلول السياسية يعطي للمساعي الحميدة فرصاً أفضل، كما ثبت أنّ ثمة ما يمكن أن يتفق عليه السوريون حكومة ومعارضة إذا توافر شرطا، عدم وجود من يتلقى التعليمات بتخريب الحلّ السياسي، ووجود وسيط نزيه مستعدّ لبذل الجهود لردم الهوة والبحث عن المخارج والحلول، كما كان الأصدقاء الروس يؤدّون المهمة بإخلاص وجدية وبروح عالية من الحرص والمسؤولية.
أظهرت الحكومة السورية ووفدها المشارك في اللقاءات التشاورية التي شهدتها موسكو، كلّ الإيجابية والاهتمام والحرص، على الوصول إلى تفاهمات تقرب الطريق نحو الحلّ السياسي، ولكن من دون أوهام، ومن دون مساومة على الحقائق التي من دونها لا تقوم قائمة لأي حل سياسي، خصوصاً من دون مساومة على مسائل تتصل بالسيادة السورية، فسورية تحتاج الحل السياسي، لكنها لن تذهب لحل بأي ثمن يضيع معه القرار السوري المستقل أو تتعرض عبره وحدة سورية الوطنية للأذى، أو تصاب به مصادر القوة السورية لحساب «إسرائيل».
ثبت أنّ سورية لم تكن تذهب للقاءات الحوار التي تدعى إليها من قبيل رفع العتب، وتسجيل المواقف. فنجاح لقاءات موسكو مقابل فشل لقاءات جنيف درس وعبرة يعنيان ويهمان المبعوث الأممي لاستخلاص خريطة الطريق التي تضمن النجاح لمسعاه، وفرصة لاكتشاف وتحديد مكامن الخلل ومصادر التعطيل للمبادرات الهادفة للحل السياسي.
يحتاج المبعوث الأممي إلى إعادة تكوين ورسم عملية جنيف وفق منطلقات تسمح لها بعبور حقل الألغام، الذي وضعه من أرادوا لها الفشل وخططوا لبلوغه، وهم يضعون أيديهم بأيدي الإرهابيين، ويتهرّبون من مسؤولياتهم في مكافحة الإرهاب وفق القرارات التي ذكرناها والتي يؤتمن المبعوث الأممي على وضعها قيد التطبيق.
أول ما تحتاجه عملية جنيف بصفتها عملية دولية لمساعدة السوريين على إدارة حوار سوري سوري خالص، حول مسائل تخص السوريين وحدهم، ويقرّرون عبرها مصير بلدهم بأيديهم، أن تشرك كل الجهات الدولية والإقليمية ذات الجهود الخيرة والأيادي البيضاء تجاه معاناة الشعب السوري، فلن تكون عملية صادقة بإدعاء الحرص على سورية والسوريين تلك التي تستبعد أصدقاء سورية الحقيقيين مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولن تكون عملية محمودة العواقب باسم جنيف، تلك التي ترمي لإلغاء مسارات موسكو، أو المضاربة عليها، والتشويش على ما حققته وأنجزته، بل شرط النجاح لأي مساع سياسية هو أن تضع الخبرة التي امتلكها الأصدقاء الروس، والعزيمة والإرادة اللتين عبرت عنهما النتائج الإيجابية للقاءات موسكو في قلب عملية التحضير والإعداد لجنيف لمن يريد النجاح.
ما أنتجته موسكو في الحوارات، يجب أن يشكل خريطة طريق، هذه هي الحقيقة التي تختبر النوايا الإقليمية التي يستطيع السيد دي ميستورا التزوّد بها قبل المخاطرة بمؤتمر، يحصد الفشل، ويكون وبالاً وخراباً على كل جهود لاحقة تحت عنوان الحلّ السياسي، حيث الفشل ممنوع هذه المرة، والتحضير المدروس هو الوصفة الضرورية، بالحصول على موافقة الدول المعنية على تنفيذ الالتزامات التي تلقيها عليها القرارات الأممية المذكورة، والتي اتفق المشاركون في حوارات موسكو على اعتبارها مسؤولية دولية يجب أن تسبق متابعة السعي للحلّ السياسي، وعندما يحمل المبعوث الأممي ورقة مبادئ موسكو إلى العواصم المعنية وإلى الأطراف التي سيلتقيها ممن يحملون عناوين معارضة ورفضوا المشاركة في اللقاءات التشاورية في موسكو، سيتمكن من معرفة نسبة النجاح والفشل التي تنتظر أي تفكير بمسار للحل السياسي.
من دون توافق على اعتبار الإرهاب الخطر الرئيسي الذي يهدد السوريين، والحرب على الإرهاب هي المهمة المشتركة للمتحاورين، وبالتالي اعتبار الجيش العربي السوري العمود الفقري لهذه الحرب والوقوف خلفه في هذه المهمة كما اتفق المشاركون في لقاءات موسكو، لن تكون فرص لمسار سياسي يحصد نجاحاً مأمولاً، ومن دون موافقة الدول المتورطة بدعم الإرهاب ورعايته على إقفال كل مصادر وموارد الدعم والرعاية والإيواء وإقفال الحدود أمام السلاح والمسلحين، ووقف تدفق المال وإنهاء التضليل والنفاق الإعلاميين، ووضع حد لسياسات التذاكي، سيكون الذهاب لحلقة سياسية جديدة، مخاطرة بفشل يعرف السيد دي ميستورا أن سورية بغنى عنه والسوريون لا يحتاجونه، بقدر ما يحتاجون طريقاً واضحاً وخطوات محددة ومدروسة نحو وقف العنف وإنهاء الإرهاب وصياغة حلّ سياسي قابل للحياة.