الإيدز السياسي؟!

د. حسن أحمد حسن

النتائج الكارثية للحرب المفتوحة على دول المنطقة وشعوبها لا تقتصر على ما خلّفته أو ما قد تخلفه من ضحايا بالأرواح البريئة، ونشر القتل والموت والخراب والدمار حيث تحلّ العصابات الإرهابية المأجورة، بل تمتدّ لتطول تشويه القناعات والأفكار وتسويق مصطلحات ومفاهيم وصور محدّدة كأنها حقيقة قائمة، في حين أنّ الواقع يؤكد بحقائقه كذب أطراف التآمر والعدوان ونفاقها في كلّ ما تدعيه وتروّجه، والغريب أنّ بعض المحسوبين على فئة المثقفين يأخذون ما سُوّق من دون إعمال الذهن في مضامينه، وإخضاعه للتحليل الموضوعي الكفيل بفرز الغث من السمين، ويذكرنا ذلك بالمثل الشعبي الذي يتحدث عمّن يتلقى مئة صفعة عن غفلة، ولا أدلّ عليه مما حصل ويحصل في سورية حيث امتدّت المُهَلُ المحدّدة لتفتيت هذه الدولة الصامدة وانتقلت من أسابيع إلى أشهر فسنوات، ولا يزال هناك بعض المغفلين الذين يربطون أيّ تحرك سياسي داخلي أو خارجي بالرهان على انتصار ثقافة الكهوف وقطع الرؤوس، على ثقافة المحبة والسلام والتعاون الخلاق والمقاومة الموضوعية المستندة إلى أرض الكرامة والسيادة ورفض الإذعان لإملاءات الخارج المتربّص شراً بالأرض والديار.

هؤلاء أكثر من نوع، فبعضهم مسكون بالحقد والانتقام، وبعضهم مصاب من حيث يدري أو لا يدري بفيروس نقص المناعة السياسي، ومن المسلم به أنّ الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسب تشكل خطراً داهماً وتهديداً مستمراً لحياة حامله، وكذلك للمقرّبين منه الذين يحتك بهم في حياته اليومية، إلا أنّ الخطورة الفعلية تتضاعف مئات المرات عندما تكون الإصابة بفيروس نقص المناعة السياسي، وبخاصة إذا كان المصاب ممّن يشغلون مواقع قيادية أو مفاصل رئيسة في صنع القرار الخاص لدى هذه الدولة أو تلك، ولعلّ أولى علامات الإصابة بهذا الفيروس القاتل للدول يتجسّد في مكابرة المصابين وادّعائهم السلامة التامة، ورفض إجراء تحاليل للتأكد ما إذا كانت دماؤهم لا تزال وطنية أم تلوّثت بالفعل وغدت حاملة للفيروس القاتل. والمصيبة الأكبر أنّ أولئك لا يكتفون برفض الخضوع للتحاليل المطلوبة في مختبرات المصالح العليا للشعوب، إنّما ينصبون أنفسهم منظِّرين في الوطنية والانتماء الوطني، رغم أنّ معطيات الواقع كلها تشير إلى عكس ذلك. ولا أظنّ القارئ الموضوعي أو المواطن العادي في حاجة إلى الكثير من الأجهزة لتمييز المرضى من المتمتعين بسلامة الانتماء المستند إلى تحصين ذاتي تفرزه الثقافة والرؤى والقناعات التي تتراكم تلقائياً وتشكل منظومة فكرية تحدّد طرائق السلوك التي تتمّ ترجمتها إلى أفعال تشير بوضوح إلى أنّ صاحبها أعطي منذ الطفولة جميع اللقاحات المطلوبة لضمان تطوّر نموّ دوره السياسي، بعيداً عن التأثر بحاملي نقص المناعة السياسي المكتسب.

مثلما هي الحال في التعامل مع المصابين فيزيولوجياً، وضرورة عزلهم لتحصين المجتمع من أذاهم وشرورهم، كذلك مطلوب التعامل مع مرضى الإيدز السياسي نظراً إلى تشابه الأعراض والمسببات والنتائج، فالإصابة الجسدية هي في الغالب من جراء علاقات شاذة وغير طبيعية، وتؤدي بالضرورة إلى هلاك الفرد ومن يتواصل معه. كذلك الأمر بالنسبة إلى الجانب السياسي من نقص المناعة الذي ينتقل عبر العلاقات الشاذة وغير الطبيعية، وفي مقدمها التواصل مع أعداء الأوطان والشعوب والإنسانية الذين امتهنوا إقامة العلاقات المشبوهة الحاملة للفيروس، ولا شك في أنّ غض النظر عن خطورة هذا الأمر يقود إلى دمار دولٍ وتفتيت شعوب. والغريب أنّ المرضى السياسيين هم الذين يطالبون من نقل إليهم الفيروس الاستمرار في إعطائهم جرعات إضافية لضمان استمرار تدفق الدماء الملوثة في عروقهم، وأكثر ما يزعجهم وجود الأصحّاء، لذا يسعون إلى نقل المرض إلى أكبر فئة ممكنة من العاملين في الحقل السياسي والاجتماعي، ويتلذذون عندما يجدون بعض المحسوبين على المثقفين يردّدون رواياتهم المهزوزة ويتبنون مواقفهم التي تفوح منها روائح العمالة والخيانة. ومن حق كلّ مواطن عربي ومسلم ومسيحي مشرقي أن يتساءل: هل التواصل مع الكيان الصهيوني بشكل مباشر أو غير مباشر والتنسيق مع أحفاد قتلة الأنبياء يصب في خانة نقص المناعة السياسي أم لا؟ وهل عقد الاجتماعات الأمنية في عدد من العواصم العربية والإقليمية والأوروبية لتوزيع الأدوار وتسلّم المهمّات التي يسندها المايسترو الأميركي لزبانيته وأدواته لتفتيت هذه الدولة العربية أو تلك يُعَدُّ شكلاً من أشكال نقص المناعة المكتسب أم لا؟ وقبل هذا وذاك هل يخرج عن فلك المصابين بالإيدز السياسي من يدعم «داعش» وسواها من التنظيمات الإرهابية ويتعاطف مع جرائمها وما يقوم به عناصرها من اغتصاب وقتل وتمثيل وتخريب البنى التحتية وتفجير السيارات المفخخة بين أوساط المدنيين الأبرياء وإقدام الظلاميين الجدد على محاولة تقويض عوامل القوة الشاملة لهذه الدولة أو تلك تمهيداً لتفتيتها وتشظيها؟

في اختصار شديد يمكن القول: إنّ المصول المجرثمة التي حقنت في أوردة بعض النظم السياسية في عدد من دول المنطقة تشكل الخطر الأكبر الذي يواجه الشعوب المؤمنة بحقها في الحياة بحرية وكرامة، وواهمٌ من يظن أن ارتهان أنظمة العمالة لمشيئة الأطلسي الذي يتخذ من أمن الكيان الصهيوني بوصلة لتحركاته يستطيع أن يوقف حركة التاريخ، أو أن يصادر إرادة هذه الشعوب الحية المقاومة المؤمنة بحتمية الانتصار على أعاصير الشر والغدر والتآمر والخيانة، وإذا كان هناك من زين لهم شيطان مجونهم السياسي التلاعب بمصير المنطقة حاضراً ومستقبلاً فعلى أولئك أن يجهزوا أنفسهم للعزل والحجر اللذين ستفرضهما إرادة عشاق الحياة، وأنصار الإنسانية الذين أثبتوا أنهم الأجدر بالانتصار والأقدر على رسم معالمه رغم أنوف الظلاميين والنازيين الجدد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى