أطفال «الصمود» في لبنان يعتصمون في الرملة البيضاء: من قلوبنا إلى شهداء غزّة… سلام!

أحمد طيّ

هائجاً كان بحر بيروت ومائجاً أمس، على عكس عادته في هذه الأيام الصيفية الحارّة. كثيرون عزوا ذلك إلى أحوال الطقس التي أضحت متقلبة فلم نعد نعرف الصيف من الشتاء، والربيع اختفى وكذا الخريف. أمّا من يفهم لغة البحر، ومن استطاع حلّ ألغازه وفكّ طلاسمه، فيعرف حتماً أنّ لاضطرابه سبباً أكبر من أن يكون مرتبطاً بأحوال جوّية. من رأى بحر بيروت أمس، عرف حتماً أنه كان على موعدٍ مع بيروت… وغزّة.

بين شاطئ الرملة البيضاء وشاطئ غزّة حكاية لا يعرفها إلا الفقراء، حكاية شعب واحدٍ لم يهزمه القهر ولا الحرمان، ولم ينل منه الموت ولا القتل ولا المؤامرات ولا الاجتياحات ولا المجازر ولا المذابح، شعب حيّ لأنه راسخ في التاريخ والجغرافيا، ولأن المحتلين طارئون على التاريخ كما الجغرافيا. وإن حصل وقال البعض في زمن ما إنّ «إسرائيل» قوّة لا تُقهر، فإن المقاومة الممتدة من لبنان إلى فلسطين أثبتت العكس، أثبتت أنّ هذا العدوّ الذي يتلذّذ بقتل الأطفال والرضّع والنساء والشيوخ والشعب الأعزل، لهو أوهن من بيت العنكبوت، وإن لم تصدّقوا فاسألوا جنوب لبنان وتحريره عام 2000، واسألوا العدوّ نفسه كيف عاش القهقرى عقب عدوانه عام 2006، واسألوه كيف عاش الويل على إثر عدوانه على غزّة عام 2008، وشاهدوه اليوم يتذوّق علقم غبائه بسبب قصفه قطاع غزّة.

إن النصر لقريب، وما مات شعب له حق، أما المحتلّ فمهما طال أمده ومكوثه، فإنه إلى زوال. لم يسجّل التاريخ خلود أيّ محتلّ في أيّ أرضٍ اغتصبها، بل سجّل خلود الأبرار من أبناء الأرض، وخلود أرضهم.

أمس، كان أطفال غزّة على موعدٍ مع أترابهم في لبنان، مع أطفال «الصمود» الذين وجدوا في منطقة الرملة البيضاء خير مكان لوقفتهم التضامنية. وكأني بأطفال «الصمود» يصرّون على عيش ألم أطفال عائلة «بكر» الذين استشهدوا على شاطئ غزّة قرب فندق «الديرة»، على مرأى من الصحافيين الأجانب الذين اكتشفوا أخيراً حقيقة وحشية العدوّ الصهيوني.

أمس، كان المشهد مؤلماً، حزيناً، بكّاءاً، لكنه مفعم بالقوّة والإرادة، أطفالٌ من مخيّمات «الشتات» يتضامنون مع أطفال «الحصار والموت»، ويطلقون صيحات سُمع منها: «يا فلسطين سامحينا، العرب لا يسمعوننا».

دعت مؤسّسة «بيت أطفال الصمود» إلى وقفة تضامنية مع غزّة العزّة، غزّة الجريحة، غزّة المحاصرة والتي تُقصف يومياً من قبل العدوّ «الإسرائيلي» الغاشم، غزّة التي تشيّع يومياً عشرات الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، غزّة التي تسطّر اليوم ملاحم البطولة في وجه عدوّ لا يفقه إلا لغة الحديد بالحديد والنار بالنار، وفي وجه غربٍ يقف إلى جانب هذا العدوّ في أكثر المؤامرات سواداً التي شهدتها البشرية، وفي وجه عربان آلوا الصمت على الحقيقة، فاستحقوا الذلّ لأنهم لا يعرفون إلا الذلّ.

من مختلف المخيّمات المنتشرة في لبنان من شماله إلى جنوبه وبيروته وبقاعه أتوا، أطفال بعمر الورود، حملوا بالونات بيضاء، كُتب على كلّ واحدٍ منها اسم شهيد وعمره، وأطلقوا البالونات في الفضاء، علّ فضاء بيروت يوصلها إلى غزّة فتصل الرسالة.

من مختلف المخيّمات الفلسطينية في لبنان أتوا، وتضامن معهم عدد كبير من الفاعليات الاجتماعية والسياسية والفنية والإعلامية والفكرية. الجميع كانوا أمس في منطقة الرملة البيضاء، ليردّدوا بصوت واحد: العزّة لغزّة، الحياة لغزّة، المجد لغزّة، والنصر لغزّة.

نداء

وتخلّلت الاعتصام أناشيد وطنية فلسطينية عزفتها فرقة موسيقى «بيت أطفال الصمود» وهتافات لفلسطين. كما رُفعت لافتات تضامنية مع شهداء غزّة وجرحاها وأهاليها، ولوائح على شكل حبال تضمّنت أسماء الشهداء والأطفال الشهداء الذين قضوا في العدوان «الإسرائيلي» على غزّة.

ووجهت الطفلة عبير من مخيم برج البراجنة نداءً جاء فيه: «إلى أبناء العالم العربي وأحرار العالم، إلى البرلمانات والهيئات التشريعية في العالم، إلى الهيئات المعنية بحقوق الإنسان في العالم، إلى الهيئات والجمعيات المعنية بالطفولة في العالم، إلى كافة النقابات والاتحادات في العالم، إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر وفروعها الوطنية في العالم، إلى كافة هيئات الأمم المتحدة ومنظماتها وغيرها من الهيئات الدولية، إلى صنّاع القرار والرأي العام، إلى كلّ من يكون قدوة لغيره بمن فيهم الفنانين والكتّاب والأكاديميين والرياضيين والصحافيين… ولكي يلعب أطفال غزّة بأمان في بيوتهم وعلى شاطئهم، ولكي يغفو الرضّع في غزّة بأمان في أسرّتهم وعلى صدور أمّهاتهم، ولكي يكون لهم التعليم والرعاية الصحيّة الجيّدة، من أجل العدالة والحرّية والسلام… ندعوكم إلى المساهمة في وضع حدّ لسياسات الكيان «الإسرائيلي» العنصرية، خصوصاً العقوبات الجماعية التي يفرضها على شعب فلسطين الذي رفض التنازل عن حقّه، وقرّر البقاء والصمود والمقاومة.

ندعوكم إلى بذل كلّ الجهود لوقف الجنون العنيف المتجدّد على غزّة وأبنائها، والذي يخلّف وراءه المجازر والعذاب ودمار البيوت والمدارس والمستشفيات… والحياة.

ندعوكم، ليس فقط إلى إدانة جرائم الحرب «الإسرائيلية» وجرائم هذا الكيان ضدّ الإنسانية، بل أيضاً إلى محاكمة مرتكبيها أمام المحاكم الدولية والوطنية لتحقيق العدالة التي ننشدها جميعاً».

لقاءات

«البناء» التقت على هامش الوقفة التضامنية، عدداً من المتضامنين والمنظّمين والمشاركين والوجوه السياسية.

سهيلة ذبيان أبي غانم من الحزب السوري القومي الاجتماعي قالت: «أتينا لنتضامن مع شعب غزّة الذي ترتكب بحقّه جرائم مروّعة، في ظلّ صمت دوليّ وعربيّ وكأن شيئاً لا يحصل. فليساووا ما يجري اليوم بما جرى مع الجندي الصهيوني جلعاد شاليط، الذي ما إن أُسر حتّى اشتعل العالم وانقلب رأساً على عقب، وتحرّك كلّ المجتمع الدولي آنذاك. اليوم شعب غزّة يُباد، والمجتمع الدولي يدعم بغير حق «إسرائيل»، ونحن هنا اليوم لنقول لغزّة قاومي واصمدي وانتفضي، فالمقاومة هي التي ستنتصر».

مسؤول الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة في لبنان أبو عماد رامز قال: «على مشهدية الدم الفلسطيني وانتصار المقاومة في فلسطين، نقول إن الشعب الفلسطيني ومقاومته يعيدان بدماء الشهداء البوصلة إلى فلسطين. أرادت الإدارة الأميركية والعدو الصهيوني والموظّفون لدى الأميركيين والصهاينة في المنطقة أخذ هذه المنطقة إلى خارج السياق الفلسطيني، ونحن اليوم نعيد هذه البوصلة إلى فلسطين، لأن لا أمل لهذه الأمة وللعالم العربي من دون تحرير فلسطين. المقاومة في فلسطين اليوم أثبتت جدارتها، وأثبتت قوّتها وقدرتها على إلحاق الهزائم بالعدو الصهيوني المتغطرس، وهي من تعيد الحق وتثبّته، في ظل المتآمرين على المقاومة. لذلك نحن نقول للمقاومين ولكل شعبنا في غزّة، بوركتم، وبوركت جراحكم ودماؤكم وتضحياتكم، وبوركت هذه البيئة الحاضنة للمقاومة التي حاول العدوّ أن يضع إسفيناً بينها وبين المقاومين، ولكن بعد 15 يوماً من العدوّ، لم يتمكّن هذا العدو من أن يأخذ شيئاً من قطاع غزّة، والمقاومة انتصرت، ولنتنياهو نقول عليك أن تحزم أمتعتك وتغادر لأن لا مكان لك على أرض فلسطين».

الشاعر والإعلامي زاهي وهبي دعا الشعوب العربية لأن تهبّ وتنتفض، وتقف وقفة رجل واحد مع فلسطين ومع غزّة تحديداً. نحن نفهم أن الأنظمة العربية ميؤوس منها، لكننا لا نفهم أن تكون الشعوب العربية مستكينة إلى هذه الدرجة. صحيح أن الجراح العربية غائرة وعميقة جدّاً في هذه المرحلة، ولكن فلسطين تبقى البوصلة وتبقى عامل وحدة للعالم العربي من المحيط إلى الخليج، لذلك نتمنى من الشعوب العربية أن تقوم من سباتها وتنتفض، وتعبّر عن تضامنها مع فلسطين وغزّة».

الإعلامية رابعة الزيّات قالت: «التضامن مع غزّة أضعف الإيمان في وقت لا نستطيع تقديم أيّ شيء آخر، لا نستطيع أن نقاتل، لا نستطيع أن ندعم بالسلاح أو غير ذلك. أقل ما يمكننا فعله أن نغضب، أن نعبّر عن غضبنا وعن حزننا، وعن رفضنا ما يحصل، في ظل التخاذل العربي».

وقال أمين سر حركة فتح في لبنان فتحي أبو العردات: «نجتمع اليوم في كلّ مناطق لبنان والمخيمات، شباباً وشيباً وأطفالاً، لنرسل رسالة إلى شعبنا في غزّة من هنا، من هذا الشاطئ، من بيروت المقاوِمة، لنقول لهم للشهداء الرحمة، وللجرحى الشفاء العاجل، وللأسرى الحرية، ولنقول لهم، أنهم ليسوا وحدهم، فنحن معهم، وكل الأحرار معهم، وكل الشعب اللبناني معهم».

وأضاف: «إن النصر آت على سواعد الأبطال في غزة، وسيزهر الانتصار عما قريب على أيدي المقاومين الأبطال الذين هم أنبل من في الدنيا».

مديرة «مؤسسة تالة» والمشاركة في تنظيم هذه الوقفة الدكتورة نجلاء نصير بشور قالت لـ«البناء»: «رتّبنا هذا الاعتصام بشكل رمزي لنقول لأطفال غزّة، إننا نقوم بما نستطيع فعله. ما نريد قوله، إن شهداء غزّة ليسوا أرقاماً، بل هم شهداء لهم أسماء، لذلك قمنا بكتابة أسماء الشهداء مع أعمارهم على اللافتات الصغيرة والبالونات البيضاء، لتكون هذه البالونات رمزاً نتوجّه به إلى شعب غزّة. نحن اليوم نشعر بأننا مكبلين ومخنوقين لأننا لا نستطيع فعل شيء مباشر، ولم نقدر إلا أن نقوم بفعل تضامني، ووجّهنا نداءً إلى الهيئات والمنظمات والبرلمانات الدولية، لبذل الجهود من أجل تغيير واقع أطفال غزّة وشعبها».

وأضافت: «إن ما يعوّض خسارة الأطفال الشهداء الذين قضوا في غزّة، يكمن في تحرير فلسطين كاملة، وعودة كلّ شبر منها حرّاً».

وختمت: «اخترنا هذا الموقع على البحر، لنقول ألا حدود تفصلنا عن غزّة، لا بل سنكسر كلّ الحدود، ومن الطبيعيّ أن نكسر هذه الحدود».

يا بحر!

أُطلقت البالونات في الهواء، أختها الرياح بعيداً فوق بحر الرملة البيضاء وبيروت، ونظر المعتصمون والأطفال إليها إلى أن اختفت، ولم تحل شمس الغروب عائقاً أمام مدى النظر. وفي أعماق المعتصمين إيمان ألا شيء سيحول دون وصولها إلى غزّة، إلى عائلة «بكر»، إلى أسرة الشهيد محمد أبو خضير، إلى أُسَر شهداء حيّ الشجاعية، إلى الأسرى المنتظرين ساعة الحرّية، إلى غزّة وكل فلسطين.

حمل البحر في الماضي رسائل الغزاة، ورسائل القراصنة كما رسائل العشّاق والمغتربين قسراً، واليوم، تحمل أيها البحر رسالة الحبّ والوفاء والتضامن وكسر الحدود من بيروت إلى…. غزّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى