غزّة… ما مات حقّ وراءه مطالب

د. سلوى خليل الأمين

غدروكِ غزة لأنهم والإنسانية على طرفيْ نقيض، لكنهم لم ينتبهوا إلى حجم غضبك المسكون في نفوس أطفالك الرضع، وسواعد فوارسك الشجعان، وصبر أمهاتك اللواتي لم يتخلّين يوماً عن جعل فلسطين خبزهم اليومي، وحليب أطفالهم، وترانيم الهدهدات في العشيّات المؤانسة نسائم الأرياح، الحاملة غضبها ناراً ودماراً وخوفاً على البلد الأمين.

غزّة هاشم تقاتل وحيدة وتصلي نيران ألمها الدائم على العدو الصهيوني، فهي التوّاقة أبداً إلى مراح فلسطين، أرض الأجداد، التي ورثها الأبناء والأحفاد بصكوك موقعة بالغضب الساطع، المرصوف فوق جباههم منذ عام 1948، عام النكبة والهجرة والتشرّد في دنيا الله الوسيعة التي لم تمنحهم هدوء المسارات ولم تزيّن أيامهم بتواشيح الفرح ولم تسعدهم بالأمن والأمان، بل بقيت الغصّات قاطرة الطريق التي تعيد رسم التاريخ من جديد، حين الذاكرة في حالة تأهّب مستمرّ، تعرّج دوماً على تواريخ الاجتياحات «الإسرائيلية» وحروبهم الهمجية المدروسة بدقة، والمطعمة بالفجور والطيش المتهالك على معايير بروتوكولات حكماء صهيون التي سيجعلها أبناء غزة رذاذات رماد تطفئ بصيرة العيون الصهيونية وحلفائها، ومن يمالئها من بني يعرب بجورهم وإجرامهم وحكاياتهم «البطولية» الوهمية!

ترى ألا تستحق غزة استنفار البطولات وفروسية أهل الصحراء، صحراء الصمت التي ترفرف في سمائها تلاوين الحكايات الغزاوية لا تهاب الموت ولا النار الحارقة ولا الأسلحة المتطورة ولا الغزو البرّي ولا قوة لواء غولاني العسكرية، فهي الحاضرة المتأهّبة، رافعة سيف الكرامة دفاعاً عن الشرف المستباح في أروقة جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة وكواليس البيت الأبيض العجوز، وصمودها هو الانتصار المباح، رغم الجروح النازفة، والدمار الهائل، وعديد القتلى من أطفال ونساء وشيوخ وعجائز، فالهدف الأسمى فلسطين، والدرب بدأ من غزة، غزة المكتوبة في أجنداتهم بأحرف حمراء، هكذا قالت الأمهات وهنّ يندبن أطفالهنّ، وهكذا صرخ الآباء وهم يدفنون أولادهم وأمهاتهم والعجائز، إذ كانت صرخات غضبهم ترتفع إلى أعنّة السماء تشهد للعالم كله أنّ الكلّ فدا غزة… بل فدا فلسطين، فليفهم «الإسرائيلي» المحتلّ، أنّ ما دام هناك عرق فلسطيني ينبض بالحياة، فالكلّ مشروع شهيد أو شهيدة لأجل العودة، عودة فلسطين إلى أحضان بنيها الصامدين والمقاومين… وإن تماهى على حدّ السيف صوتهم الصارخ المهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور لكلّ من سيتطاول على غزة وناسها الصابرين.

ترى هل تغفرين يا غزة لحكام العالم، خاصة ا»لأخوة» منهم و«الأشقاء»، الذين يتغنّون بالحرية والديمقراطية، هذا الصمت الملوّح بتهجّؤات الزمن الفارغ من مضامينه الإنسانية، حين اللحظات المنكوبة هي المرحلة الحاسمة في تاريخ النضال والجهاد الفلسطيني والمقاوم، فلا استسلام، ولا ارتهان، ولا ذلّ وخنوع، ولا مغفرة رغم كثرة الأكفان التي تدثرت جثامين شهدائك، ومن لحظات الحزن الفاقع القابع فوق أسوار حاراتك ومآذنك، وبسمات الموت التي تجلل الشفاه.

تكتمل الرواية في غزة، رواية الإجرام والتحدي البطولي، لكن يبقى الحلم مرتاحاً فوق مجرى الدمع والدم حين القتال في الجوّ والبرّ يحصد الأبرياء من أبنائها من دون ذنب اقترفوه، بل جريمتهم أنهم ينادون بوطن هو حق لهم، وأرض ورثوها أباً عن جد، وأبجدية ما نطقت سوى بلغة الضاد، وطيب هوى ما أحبّ يوماً سوى فلسطين المغروسة في البال ضجيج خواطر لا تهدأ، ما دامت المواعيد متأهّبة على خطوط النار، وما دام زيت العيون يمصل دماً حارقاً في ليالي الشدة والفجور، وما دام صقيع العروبة في واد سحيق لا تصله أنوار الشمس، التي تدفئ القلوب وترتب مسارات كواكبها في زمن القحط والجفاف وبرودة العافية.

فيا عرب الصمت المدقع في غيبوبة المسافات، ألا رأيتم مجازر الأطفال في غزة، ألا رفّت جفون عيونكم لمنظر الدمع والدم والقلوب المحترقة من لوعة وحسرة وغضب وفراق؟ ما أنتم؟ ومن أنتم؟ وماذا ستقولون غداً وبعد غد وبعد بعد غد لأطفال غزة القادمين من أرحام أمهاتهم وسيوفهم في أيديهم؟ هل ستخبرونهم أنّ جهلكم وغباءكم وعمالتكم ضيّعت فلسطين ماضياً، وها هي تغضّ النظر اليوم عما يجري في غزة هاشم من مجازر لا تقبلها الضمائر الحية، ولا منظمات حقوق الإنسان، ولا حتى الشعوب التي رأيناها في الدول الغربية تتظاهر معلنة النفير، في حين لم تخرج في أيّ شارع عربي تظاهرة استنكار مليونية تدين العدوان «الإسرائيلي» الفاجر ومجازره اللاإنسانية. فأين أنتم يا قادة الأمة الأشاوس الذين رفعتم رؤوسكم عالياً، ومددتم صراخ حناجركم عرض البرّ والبحر، وأنتم تدينون سورية ودفاع قائدها وجيشها عن أمن ناسها وأمانهم، واليوم تغضّون النظر عن الانتهاكات الصهيونية المجرمة في حق غزة وأهلها في هذا الشهر الرمضاني الفضيل. غزّة حقاً أسطورة لا تصدّق، وأعجوبة لم يرصدها مؤرّخ ولم يلفها شاعر بشطور قصيدته.

لذلك كله، يؤلمني الدمع الذي لا لزوم له حين المواقف مؤلمة، والجريمة فظيعة تخطت الأعراف اللوجستية والإنسانية كلّها، ويؤلم أكثر الصمت المتماهي ابتهال لحظات، قد تقصر وقد تطول، حين الواقع هو العجز المطبق، وحين الإرادة العربية معطلة بفرمان أميركي صهيوني، لهذا هم غير قادرين على نصرة غزة وأهلها أو تشجيع مقاومتهم وتصديهم وصبرهم، فالقيام بفعل الجهاد والمقاومة أمر غير مرغوب فيه صهيونياً، ولذا على غزة أن تكون الذبيحة والضحية، مثلما حصل في سورية والعراق ولبنان وليبيا والسودان وغيرها من الدول العربية التي غُضّ النظر عن تقسيمها وتفتيتها وقتل علمائها وناسها إرضاء للصهيونية العالمية التي ستجعل الجميع في فوهة البركان عما قريب.

اطمئنوا يا عرب، لن تهزم غزة ستبقى عصية على الجرح مهما تمادى بنو صهيون في غيّهم وإجرامهم… وإنّ غدا لناظره قريب. فمثلما صبرنا في جنوب لبنان وظفرنا بالنصر المؤزّر، هكذا سنلاقي غزة هاشم في يوم النصر المنتظر، عروساً مجلّلة بالإيمان: ما مات حق وراءه مطالب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى