تطوّر الرواية العراقيّة على وقع ثورة العشرين

كتب صباح علي الشاهر: كانت ثورة العشرين في العراق أهم ثالث حدث في فترة زمنية قصيرة. أحدثت تلك الثورة العملاقة تغييراً بطابعها الشعبي إذ كان الفلاحون والكادحون قاعدتها ووقودها وكان قادتها من رجال الدين المتنورين ورؤساء العشائر وبعض المثقفين، وغطت أرياف العراق ومدنه، وكبّدت القوات البريطانيّة المدجّجة بأحدث الأسلحة يومذاك خسائر فادحة كادت تحوّل مجريات الأمور في الشرق الأوسط برمته. وإذ لسنا في وارد التأريخ لهذه الثورة، إلإ أننا نشير إلى تأثير الثورة البلشفيّة التي أعطت زخماً لقضيّة نضال الشعوب، وفيها الشعب العراقي، من خلال كشفها المعاهدات الإسترقاقيّة ومنها معاهدة سايكس بيكو، وباقي المعاهدات الامبرياليّة التي اقتسمت العالم بين الدول الإستعمارية.

كان لهذه الثورة تأثير كبير لا يُستهان به في الثورات القوميّة، مثل الثورة العراقيّة، والمصريّة، والإيرلنديّة، وغيرها من الثورات التي عمّت العالم، وبدت كأنها ارتدادات لزلزال أكتوبر في عاصمة القياصرة.

لكن بعض الكتاب ذهب بعيداً في تقدير تأثير ثورة أكتوبر على ثورة العشرين، ربما بدافع الحماسة مثل علي النوري، راجع «ثورات العراق الوطنية»، مجلة «الثقافة الجديدة» بغداد، العدد 24، 1970، ص 30-31 ، كذلك الدكتورة سعاد خيري في «الثورة العراقية الأولى» «الثقافة الجديدة» العدد 38، 1972، ص 77-89 . أما الدكتور أميل توما فاعتبر الثورة العراقيّة إحدى نتائج ثورة أكتوبر، رغم أن ظروف أكتوبر وأهدافها ودوافعها هي غير ظروف ثورة العشرين العراقيّة وأهدافها ودوافعها، فأكتوبر ثورة إجتماعيّة جذريّة أمميّة، وثورة العراق سياسيّة وطنيّة ذات أهداف محددة لا تتجاوز الاستقلال وإقامة حكومة وطنيّة.

في هذا الصدد نود الإشارةإلى الأسئلة التي وجهها المؤرخ العراقي المعروف المعاصر للثورة عبدالرزاق الحسني إلى قادة الثورة ورجالاتها الأساسيين وتضمنت الأسئلة الآتية: ما هي العوامل التي أدت بنظركم إلى إعلان الثورة العراقيّة عام 1920؟ وهل تلقت الثورة ذخائر حربيّة أو أموالاً أو نقوداً من الخارج؟ إذ أعلن جميع قادة الثورة ورجالاتها الذين استجوبوا، أن أسباب الثورة إنما هي أسباب داخليّة بحتة، وأن الثورة لم تتلقّ معونة مادية بل لم تلقَ دعماً معنوياً من أحد خارج البلد راجع الصفحات من 134 إلى144 من «تاريخ الثورة العراقية» لعبد الرزاق الحسيني ط1. مطبعة العرفان، صيدا، لبنان. 1935 .

هذه حقيقة ثورة العشرين الوطنيّة التحرريّة. إنها ثورة عراقيّة صرفة، دوافعها وأسبابها عراقيّة، وأهدافها وغاياتهاعراقيّة، وقادتها عراقيون، وقاعدتها عراقيّة. لم تُمد لها يدّ المساعدة من أحد، لا من قبل بلد عربي شقيق، ولا من بلد إسلامي، أو جار، أو صديق، أو قريب أو بعيد، أو أي بلد. اندلعت في حدود العراق، وظلت في حدود العراق، وقودها العراقيون، ولم يتطوع فيها أحد من غير العراقيين، وانتهت في حدود العراق، لم تمتد أبداً عبر الحدود، لم تصدّر أنموذجها لأحد ولم تطلب الدعم من أحد.

قُمعت هذه الثورة بالحديد والنار وبالاحتيال أيضاً، ولعل متابع حوادثها يصعب عليه القول بانتصارها التام، فلم تحقق من أهدافها سوى إجبار المستعمر على الوعد بمنح البلد الاستقلال، وإبدال الاستعمار بالانتداب، وتنصيب حكومة ملكية جاء ملكها وقادتها من خلف الحدود، إلاّ أن للثورة التي لم تنتصر تماماً وجهاً آخر يُعبر عنه بلغة أخرى، إذ جعلت الإنكليز يتخلون عن فكرة حكم العراق بصورة مباشرة، وهذا التخلي وحده كان انتصاراً من العيار الثقيل، انتصار من لا يملك دبابة وطائرة ومدفعاً في وجه من يملك الأرض والبحر والسماء والدنيا كلها. ليس هذا فحسب، بل إجبار المستعمر على الإقرار بضرورة قيام حكومة وطنيّة مستقلة شكلياً وإن تحت راية الانتداب مرحلياً، وترك حلم قيادة العراق من قبل حاكم بريطاني معين من قبل التاج البريطاني، أو إلحاق العراق بحكومة الهند البريطانية.

شكلت الحكومة من أنصار الإنكليز عامة، ومن الطبيعي ألاّ تكون هذه النتيجة التي تمخضّت عنها الثورة هي ما كان يطمح إليه المثقفون الذين وجدوا أن الثورة الشعبيّة تعرّضت للخيانة، وإنها أُغتيلت من قبل المساومين، وطلاب المناصب، وبعض رؤساء العشائر الذين أصبحوا في ظل الإنكليز إقطاعيين كباراً.

أصابت النتيجة التي آلت إليها الثورة المثقفين بالخيبة، ما انعكس على طبيعة الإنتاج الأدبي، وبخاصة الروائي، إذ أصبحت الرواية تنسج على منوال الرواية العربيّة، وأصدر محمود أحمد السيد رواية «في سبيل الزواج» عام 1921، و»مصير الضعفاء» عام 1922، و»فتاة بغداد» عام 1922، وأصدر سامي خوندة «سلمى ونديم» عام 1923، ويوسف رزق الله رواية «غادة بابل» عام 1927، وخليل عزمي رواية «دلال» عام 1928، وهي روايات ذات مضمون عاطفي مشوب باللوعة والأسى والحزن ومتسم بالإحباط، ذات ملامح اجتماعيّة، وخاصة لدى محمود أحمد السيد، مع موقف نقدي لاذع.

على عكس من الشعر الذي كان ينحو منحى إجتماعيّاً وانتقاديّاً صرفاً، كانت الرواية في هذه الفترة حبيسة البعد العاطفي الذي كانت تدور في فلكه، إلاّ أن ذلك لم يدم طويلاً، إذ شهدت فترة العشرينات تطوراً مهماً في الوعي الاجتماعي والسياسي لدى المثقفين، وتبلور مفهوم الاشتراكيّة لديهم، وواصل سليمان فيضي تعميق رؤيته الإجتماعيّة، وطفق رائد الإشتراكيّة في العراق حسين الرحّال الذي كان أرسل للدراسة في ألمانيا من قبل الحكومة العثمانيّة. ومن المفارقة الغريبة أنه كان أول مسافر يسافر مع أول قطار ذاهب إلى برلين، بعد افتتاح خط سكة حديد بغداد – برلين عام 1916، وعندما اندلعت الثورة العماليّة في برلين عام 1918 هزّت حسين الرحال هزاً عنيفاً، وكان العديد من أصدقاء حسين وآباؤهم الألمان من المساهمين في هذه الثورة، وتهيأ لحسين الاستماع إلى خطب روزا لوكسمبورغ وكارل ليبخنت وغيرهم من الثوريين، وكان يطلع على منشورات الثورة التي كانت محملة بالأفكار الاشتراكيّة، ومن هنا كانت انطلاقة الرحّال الذي عقد العزم على نشر الفكر الاشتراكي في العراق لدى عودته. وإثر عودته من ألمانيا، طفق يجمع العناصر المثقفة مثل محمود أحمد السيد وعوني بكر صدقي وعبدالله جدوع وآخرين من النخب المثقفة، ليشكلوا اتجاهاً سيكون مؤثراً في الثقافة العراقيّة، وليصدروا في 28 كانون الأول 1924 أول جريدة إشتراكيّة في العراق هي «الصحيفة» التي لعبت دوراً مهماً في بث الفكر الإشتراكي العلمي ونشره. وساهمت الصحيفة في تأكيد البعد الإجتماعي في الأدب، واستقطبت حولها المثقفين المتنورين الذين قُيّض لبعضهم أن يلعبوا لاحقاً أدواراً مهمة في تاريخ العراق السياسي والثقافي والأدبي.

يقول حنا بطاطو معرّفاً بعائلة الرحال: «إنحدر الرحال من أب عربي وأم تركمانيّة، كانت أمه من عائلة النفطجي التي كانت تتمتع ولأجيال عديدة باحتكار ينابيع النفط في كركوك، وجاءت عائلة أبيه من الرحاليّة في مقاطعة الدليم ، وانتمت في القرن التاسع عشر إلى طبقة الجلبيين الذين كانوا تجاراً وأصحاب مركز إجتماعي رفيع، في ذلك القرن كان آل الرحال يمتلكون أسطولاً كبيراً من السفن الشراعيّة، وكانوا يتاجرون عبر الأنهار العراقيّة وفي الخليج مع الهند».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى