الموصل بلا مسيحيّيها: مجرّد خبر

عامر نعيم الياس

يواصل السكان المسيحيون في مدينة الموصل العراقية مغادرتها، فمنذ اجتياح سهل نينوى من قبل إرهابيي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والذي تحوّل إلى الدولة الإسلامية بعد إعلان الخلافة وتنصيب خليفة للمسلمين دون غيرهم، أدركوا أن وقت الرحيل قد جاء. خمسة آلاف مسيحي عراقي مشرقي غادروا سهل نينوى، كانوا قبيل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 حوالى مئة ألف، هاجروا بسبب الاحتلال «الصليبي»، نعتٌ يعد الأفضل والأنجع لدى تنظيمات الإسلام السياسي كافة من «الإخوان» أولاً إلى أحفادهم الأكثر تطرفاً ممن اعتنقوا الوهابية ديناً وسبيلاً، من أجل توصيف المسيحية، فالرمز هنا يجب أن يشوّه ويستخدم لربط ما هو روحي بما هو سياسي تاريخي مجحف بغرض التشويه أولاً، والتجييش ثانياً.

هرب مسيحيو العراق جراء الغزو الأميركي لبلاد الرافدين العظيمة وأرض المسيحية الأولى، حاول خمسة آلاف منهم البقاء في منطقة صغيرة بلا حقوق في العراق ما بعد الاحتلال، في عراق الديمقراطية الطائفية الأميركية، لكن يبدو أن بلادهم ضاقت بهم، كما العالم أجمع، فالمحرّك لهذا الإعصار الذي بدأ مع احتلال العراق لا يريد للمسيحية المشرقية البقاء، كما لا يريده للشرق. البعض يقول إن التسمية جاءت نسبةً إلى شروق الشمس، النور يريد ظلاماً بلون الدم، فالجميع أعداء لواشنطن والمحافظين الجدد والمسيحية الغربية التي أصبحت صهيونية تحت ألف اسم وطريقة ومذهب، بعد أن تمت شخصنتها على عكس ذلك الشرق الروحي الماورائي صاحب الحضارة الأنثوية الناعمة من الفينيقيين والآشوريين والبابلبين والكنعانيين، لا فرق، فالشام والرافدين أبجدية وحدائق معلقة ومخطوطات ترمى في الفرات من قبل المغول.

مدينة الموصل العراقية بلا مسيحيين منذ ألفي عام، انتظر التاريخ عشرين قرناً ليشطب الهوية ويطرد أبناء الحياة من موطنهم وأرضهم، على يد الفاتحين الجدد لأوطان أصبح كل ما فيها ومن فيها عدواً للأميركيين الذين ما زالوا يقودون العالم، وها هو مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية الأميركي يقول: «إننا لا نواجه عدوّاً واحداً بل ثلاثة أعداء على الأقل هم: الرئيس بشار الأسد، ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وخليط من مجاميع داعش والمجاميع السنية المعادية في العراق وسورية»، توصيف سحري لوصفة دمار شامل للبلاد والعباد. أما الموصل فقد مرّت مرور الكرام على صفحات إعلام ينسب إلى الكاثوليكية ولا يحمل منها إلا اسمها فها هي «الغارديان» البريطانية ومن دون إدراج أي توصيف يدل على الإرهاب أو حقوق المواطنة أو حقوق الإنسان تعنون أحد تقاريرها «الدولة الإسلامية تخيّر المسيحيين بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو الموت».

هل سأل أحدنا سؤالاً حول سبب تغيير اسم الدولة الإسلامية في العراق والشام إلى الدولة الإسلامية؟ هل سأل أحدنا عن سبب هذا الانضباط الإعلامي، الغربي تحديداً، الحازم والحاسم والصارم بأوامر البغدادي بتغيير اسم الدولة؟

هو التكرار على مسامع المستهلكين المستلبين في هذا الشرق المرهق المثقل بالأحزان، هي الدولة الإسلامية باتت أمراً واقعاً، وها هم المسيحيون يغادرون نهائياً أرضهم في الموصل. يغادرون أوطانهم حاملة الدولة الدينية، فدولنا لها دين ينسف عروبة بطرس البستاني وميشيل عفلق وقومية سعاده، دولنا «العلمانية» تجعل ذلك المسيحي مسلّماً بقضاء الله وقدره منذ مئات السنين، مثقفونا في وقت من الأوقات اختلفوا حول إسلام ميشيل عفلق من عدمه، بعضهم أعجب بالفكرة التي أطلقها صدام حسين، فهي صالحة لإصلاح الخلل في الدين المسيحي «الصليبي»، خللٌ يبدو أنه ناشئ من إيمان هذه الفئة بالسلام والعلم والبناء، مكان السلاح والقتل والذبح، إيمانها بالانتماء الأوسع وبروح الأمة وليس دين الأمة، إيمانها بدولة المواطنة، التائهة عبر تاريخنا في عمائم المفتين في الجمهوريات العلمانية.

إن قطيع القتلة المنتمين إلى ما يسمى «داعش» ليسوا سبباً بل نتيجة، وإذا كان هناك من يريد أن يفرض أن للدولة ديناً، عليه أن يعي تماماً أن الدواعش بانتظاره في كل زمان. وإذا كانت الموصل خالية من مسيحييها للمرة الأولى منذ عشرين قرناً، على الجميع أن يعي أن المسيحية المشرقية حضارة قبل أن تكون ديناً.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى