من معلولا إلى الموصل… المسيحيّة المعذّبة

صادق النابلسي

إنها رحلة تأسيس «شرق أوسط جديد» عبر جلجلة من العذابات الأليمة لمسيحيّي الشرق. معلولا في سورية والموصل في العراق نموذجان يشيان بأخاديد عميقة تقود المسيحيين إلى مكان ما في أغوار التاريخ حيث ينتظرهم ضياع عظيم. لا خوف مثل خوف المسحيين هذه الأيام، يخشون الغور في هذه الأرض أو وداعها إلى منافي الغرب. أكثر من مؤتمر عُقد في الأعوام الأخيرة يعكس حيّزاً كبيراً من المخاوف التي يواجهها المسيحيون المشرقيون، ويحاول أن يقترح مداخل إلى حلول ممكنة رغم كلّ ما يلحق هذه المنطقة من تهشيم وتدمير وتفكيك للبنى الثقافية والدينية والاجتماعية، ورغم الفضاءات الذهنية كلّها التي تحمل الكثير من سموم الفكر وصدام الرؤى، وما ذلك إلاّ لكون العبقرية المسيحية كما يقول جورج قرم «تكمن في هذا الرجاء الاستثنائي في القدرة على التغلّب على الموت».

لكن قبل أن نشارك المسيحيين قلقهم وهمومهم بتقديم بعض الاقتراحات لمواجهة التحديات التي تعترض كينونتهم ووجودهم وتموضعهم الحضاري في هذا الشرق، من المفيد التوطئة ببعض المفاهيم التأسيسية وإن كان سال فيها وحولها حبر كثير.

أولاً: إنّ المسيحية المشرقية جزء عضوي من الواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي. شهادة ميلادها صادرة عن هذه الأرض. هنا نشأت ونمت واستقرت وتوهجت ببريق المحبة وأصبحت منبعاً للإلهام الفلسفي والروحي.

ثانياً: إنّ حضور المسيحيين في المشرق حضور أصيل داخل النظام الحضاري العربي والإسلامي. عملوا وتحركوا تحت شمس العروبة والإسلام، ما يعني أنهم أصلاء وليسوا طارئين ولا غرباء بل من لحم هذه المشرق وترابه وروحه.

ثالثاً: إنّ هذا المشرق مجال مفتوح على الإيمان الحرّ. أراضيه أراضٍ رسولية ورسالية. على هذه الأرض تصنع عجينة الإيمان وتصدّر إلى بلاد العالم كافة.

بناء عليه، كانت ركيزة التعايش ضمن السياق الطبيعي لمسلكية التاريخ ومن أصول التطور الروحي لسائر الأجيال التي تعاقبت وعاشت في هذا الشرق، وبوصفها قوة إحيائية تعلو فوق التباينات والفروق الاعتقادية، تستطيع التجسّد من خلال الرغبة المستمرة لدى جميع أتباع الأديان والمذاهب في أن تبقى هذه الأرض ميداناً مشعّاً للخير والتفاعل والجمال. إلاّ أنّ واقع الحال اليوم استقر على شقاقٍ رهيب وبات عرضة للهمجية والعنف وتصدّع التوازنات السياسية والتوافقات الاجتماعية. والمسألة الأخطر وسط موج الانحلال الزاحف من قبل الجماعات الجهادية الإرهابية تكمن في غياب البديهيات في تصرّفاتها. حرمة دماء الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، حرمة المساس بأموال المدنيين وأعراضهم، حرمة التمثيل بالقتلى، حرمة الاعتداء على دور العبادة، وغيرها من البديهيات التي أخرجت هذه الجماعات من كونها تنتمي إلى دين الرحمة والتسامح والاستقامة إلى كونها تتبع أيديولوجيا عدمية عبثية لا تستوي على معايير محددة ومعروفة.

وسط جوّ هُجاسي يغذي المخاوف الوجودية لدى المسيحيين في الشرق، من فلسطين المحتلة التي لم يبق من مسيحييها إلاّ عدد قليل، إلى العراق الذي وصل عدد المسيحيين الذين غادروه أكثر من مليون ونصف مليون، إلى مصر حيث يواجه الأقباط فتنة طائفية لا مثيل لها، وصولاً إلى سورية التي هجرها معظم المسيحيين ودمرت معالمهم الدينية التاريخية. يقف المسيحيون أمام تساؤلات متزايدة: أيتّجهون إلى طلب حماية الغرب، والغرب هو أصل محنتهم وويلاتهم حين تدخل مقسماً وناهباً وصانعاً لجميع التكوينات الطائفية السياسية في المنطقة بمعناها السياسي تحت مسمى «الأقليات» كي تحفظ له نفوذه عبر تصادمها واقتتالها الأبدي؟ أم يسعون إلى مقاومة ديناميات العنف والدموية والبربرية في ظل العواصف العاتية الآتية من الخارج التي تضرب المنطقة بغية قلب الأوضاع والتوازنات وبسط نظام وواقع جديدين! لسان حال المسيحيين القلقين التائهين اليوم يقول: كيف السبيل إلى الخروج من هذا الواقع الداكن الذي لا ينفذه نور العقل والإيمان والإنسانية؟ كيف السبيل إلى شفاء الجروح وسد الصدوع ووقف هذا المسلسل الدموي المفتوح على الكراهية والتعصب والذي يذكرنا بزمن الحروب الدينية المتوحشة في أوروبا. لا شك في أنّ الإجابات صعبة، ولكن لنساهم معاً في وضع بعضها على سكة التداول والمناقشة العلمية.

أولاً: إنّ أزمة المسيحيين ليست أزمة خاصة بهم إنما هي أزمة الوجود الجماعي لسائر أهل المشرق على اختلاف مشاربهم الثقافية والسياسية وانتماءاتهم الدينية. وهي أزمة الحضارة المشيّدة على هذه الأرض التي بارك الله فيها. كما هي بنحو قاطع أزمة المسلمين فكراً ومنهجاً وسلوكاً.

ثانياً: على المسيحيين المشرقيين الذين لم يكونوا يوماً جزءًا من هموم الغرب أن يتفحصوا من جديد توجهات وأنساق السياسات الاستعمارية الاستغلالية التوسعية التسلطية التي لم تكن تأبه وتهتم لما يتعرضون له، بل لا بد من العمل على كشف أخطار هذه التوجهات والسياسات على الوجود المسيحي المشرقي نفسه.

ثالثاً: لا بدّ من إعادة إرساء الدين وما يدعو إليه من قيم الخير والمحبة والسلام وباعتباره مفتاحاً لتطوير حياة الإنسان وتحريره من الاستعباد والاستغلال والظلم، وبوصفه التعبير الأرقى عن العقلانية في وجه التيارات العدمية الهمجية والأيديولوجيات ذات الطابع التكفيري .

رابعاً: على المسلمين التأكيد على الوظيفة التوحيدية للإسلام وبما تشكل من منظومة استيعاب ووحدة وتوحيد، بحيث يكون وجود الشرائع وتنوّع الثقافات في مجتمع واحد أمراً أصيلاً من صلب الحضارة الإسلامية وجذرها.

خامساً: لا خيار أمام المسلمين والمسيحيين إلاّ بالعمل متضامنين لإظهار الأخوّة الإنسانية المشتركة الكامنة فيهم، وإلاّ من خلال خطاب إنسانويّ يوحّد همومهم وتطلعاتهم ويجسد مبادئهم الدينية ويحقق رغبتهم الصادقة في العيش الواحد على أرض واحدة.

الخرائط والتصاميم المقرّرة لمنطقتنا كثيرة، لا ترسم الحدود الجغرافية لـ«الأقليات الدينية» وإنما تؤدي إلى القضاء على الدين نفسه، من كونه منبعاً للتسامح ومصدراً للخير والسبيل أمام إنسانية بعيدة عن التصنيف والتمييز والعنصرية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى