غزّة العزّة والكرامة العربية

نهلة عبدو

لا أدري ماذا سيتمخّض عن هذه الكلمة. لا أدري ماذا سيحصل بعد يوم أو حتى بعد ساعة من الآن. في كل صباح أبدأ بكتابة بعض الكلمات لأمحوها في المساء، فأرقام ضحايا الإرهاب الصهيوني تتزايد في كل يوم، وفي كل ساعة. لكن اليوم، وبعد مجزرة حي الشجاعية الذي يقطنه أكثر من ثلاثين ألف إنسان، وبينهم عائلات ألفتها في زياراتي العديدة والطويلة لغزة، يأبى هذا اليوم أن يمر من دون تدوين بعض الملاحظات ومن دون إطلاق صرخة للضمير العربي، إن وجد، وللآذان العربية، إن كانت تسمع!

ما زلنا نجهل عدد ضحايا مجزرة غزة الشجاعية والشجاعة، بعدما قرر جيش الاحتلال منع طواقم الإسعاف من الوصول إلى الحي، وبعدما بات هذا الجيش يقصف حتى سيارات الإسعاف والمسعفين. لكن العدد الأولي لضحايا هذا العدوان الهمجي والذي قدر بنحو سبعين شهيداً ومئات المصابين، وهم في غالبيتهم من الأطفال والنساء والمواطنين العزّل يأتي ليراكم أعداد ضحايا الهجوم الصهيوني العنصري على غزتنا الحبيبة ليصل عدد الشهداء الأولي إلى نحو خمسمئة ويفاقم عدد الجرحى إلى أكثر من ألفين وخمسمئة.

التقارير الفلسطينية، وكذلك تقرير الأمم المتحدة، تؤكد أن غالبية الشهداء الضحايا هم من الأطفال والنساء، فأكثر من سبعين في المئة 70 في المئة من الأطفال الذين قضوا لم تتجاوز أعمارهم الحادية عشرة. القصف «الإسرائيلي» الهمجي الذي طال ألوف البيوت ودمرها فوق رؤوس أهاليها أدى إلى استشهاد عائلات بأكملها: من عائلة البطش قضى ثمانية عشر فرداً ومن عائلة الحاج ثمانية أفراد ومن عائلة أبو جراد ثمانية، ومن عائلة كوارع سبعة، ومن عائلات حمد وغنام والاصطل والزويدي مالا يقل عن أربعة أطفال من كل عائلة. أكثر من 900 بيت هُدّم كلياً، ونحو 1700 بيت هدّم جزئياً. وبحسب أحد التقارير فإن نحو 800 من البيوت المهدمة جزئياً لا يصلح البتة للسكن.

يقولون لنا وللعالم أجمع إن دولة الاحتلال تحذر المواطنين الفلسطينيين قبل قصف بيوتهم وتأمرهم بمغادرتها. لكن ما لا يقولون لنا ولا للعالم هو أهم بكثير: هم لا يقولون إن طائرات الاحتلال المحلقة في سماء غزة والجاهزة لتدمير هذه المنازل تمهل المواطنين خمس دقائق فحسب لإخلاء منازلهم، وفي حالات أخرى قد لا تكلف نفسها هذا «العبء». فبحسب إعلام الاحتلال، طلب إلى مئات ألوف المواطنين إخلاء منازلهم. لكن الأنكى من ذلك كله أنهم لا يقولون لنا أين ستذهب هذه العائلات مع الأطفال وفي فضاء أي بقعة من أرض غزة سيلجأون. فحتى أراضي غزة الزراعية وشواطئها لم تسلم من الغارات الصهيونية والتدمير الممنهج. عاهد ومحمد وإسماعيل وزكريا أربعة أطفال من عائلة واحدة ذهبوا إلى شاطئ غزة ليلعبوا كرة قدم حيث قصفتهم قوات الاحتلال وصورهم تنخر الذاكرة العربية والعالمية.

«أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة» محمود درويش

أين يذهب الفلسطيني في غزة؟ بمن وبمَ يستغيث؟ ندرك جميعاً أن نحو 80 في المئة من سكان غزة هم أصلاً من اللاجئين، والكثير من هؤلاء من لجأ للمرة الثانية والثالثة بعد نكبة 48، فأين يلجأ هذا اللاجئ وأين تلجأ هذه اللاجئة؟ سماء غزة تمطر قاذفات وأطناناً من القنابل، وشواطئ غزة تقصف المواطنين بوابل من القذائف، وأرض غزة من جميع المحاور تحاصرها قوى الاحتلال الصهيوني. لا بقعة على أرض غزة المقاومة يؤتمن فيها الفلسطيني، طفلاً كان أو امرأة أو شيخاً. غزة كلّها مستباحة، غزة كلّها عرضة للقصف الهمجي، غزة كلّها تئن تحت قنابل الاحتلال فإلى أين يذهب الفلسطيني في غزة؟ وكيف يترك بيته الذي بناه عبر سنين طويلة من كده وعرق جبينه المجبول بدماء أهله وكراهية المستعمر المشغل له؟ كيف يترك تاريخه وذكرياته ولعب أطفاله؟ الكثافة السكانية العالية جداً 4661 لكلّ كلم مربع في غزة وبيوتها المتراصّة لا تنعم بالملاجئ وليس في قدرة العائلة صرف مبالغ إضافية لبناء ملاجئ، فالملجأ رفاهية تتمتع بها العائلات الميسورة أو تؤمنها بعض الدول الغنية.

هذه المحرقة ليست الأولى وربما ليست الأخيرة

العدوان الصهيوني الحالي على غزة ليس الأول منذ الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية. ومن دون العودة إلى تاريخ المجازر الصهيونية منذ عام 48 وخلال حرب السويس سنة 1956، يكفي التذكير بـ«المحرقة» التي ارتكبها العدو سنة 2008. وللمناسبة، فإن مصطلح المحرقة الذي كان حكرا على اليهود ذكرى محرقة اليهود من قبل النازيين كان أطلقه وزير الدفاع الصهيوني إيهود باراك على القصف الهمجي لغزة. وفي أقل من شهرين بين كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009 وفي ما سُمي بعملية «الرصاص المصبوب» قتل الإرهاب الصهيوني نحو 1410 فلسطيني في غزه غالبيتهم العظمى 83 في المئة من المدنيين وغير المقاتلين وأضاف إليهم آلاف المصابين والمعوقين. وفي هذا العدوان وهذه الجرائم التي وصفتها تقارير الأمم المتحدة Richard Falk and Goldstone Report بجرائم ضد الإنسانية، وضعت غزة بأهلها وأطفالها ونسائها وشيوخها تحت الإرهاب الصهيوني. نسي العرب ونسيت الأمم المتحدة ونسي العالم غزة وبقي أهلنا يضمّدون الجروح وحيدين.

لم يتوقف العدوان الصهيوني على غزة منذ ذاك الحين، بل على العكس، وضعت غزة تحت حصار مطبق. أغلقت حدودها مع مصر ومع دولة الاحتلال، منعت عنها الأدوية والمعدات الطبية، كما منعت مستلزمات البناء الضرورية لإعادة إعمار البنى التحتية والمدارس والمستشفيات التي هدمها الاحتلال، وتفاقم عدد العاطلين عن العمل ليصل إلى أكثر من 60 في المئة في معظم أماكن القطاع. ورغم أن أهلنا في غزة بقوا صامدين وحاولوا إعادة إعمار منازلهم وشوارعهم ومستشفياتهم، إلا أن الانفراج البسيط لفتح المعابر مع مصر لم يدم طويلاً، وحصار غزة أرضاً وبحرا وجوا وفصلها التام عن شعبها في الضفة الغربية وفي أراضي 48 أبقى أهلنا في القطاع في حالة عزلة وفقر شديدين لا يحتملهما أي إنسان.

غزّة تاريخ أمّة

لا يمكننا عزل غزة عن فلسطين وقضية فلسطين. صحيح ما قاله غسان بن جدو من أنها «أشد قبحاً عند العدو». لكن ما كانت غزة لتؤول إلى ما آلت إليه وما كان ليصيبها ما أصابها لو حافظنا عليها كفلسطينيين ولو أكدنا على كونها جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الفلسطيني والجغرافيا الفلسطينية والثقافة الفلسطينية والذاكرة الفلسطينية من شهداء وموقوفين وسجناء سياسيين ومقاومين ينشدون الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية لنا جميعاً. لم يكن ليصيب غزة ما أصابها ويصيبها الآن لولا الصمت العربي وغياب الضمير العربي وتشرذم هذه الأمة وانشغالها بالكراسي والعروش الواهية. وعلى ذكر الأمة العربية، يقال الكثير الكثير لكن هذه الكلمات لأهلنا في غزة: يكفي الصمت العربي. يكفي التواطؤ مع العدو المتغطرس. غزة الجريحة تنادينا جميعاً. جريمة حي الشجاعية في غزة اليوم ما هي إلا واحدة من جرائم الحرب الصهيونية على شعبنا الفلسطيني، تضاف إلى تاريخ هذا العدو الدموي الحافل بالجرائم ضد الإنسانية. فلتفتح الآذان العربية وليصحُ الضمير العربي والعالمي.

أستاذة جامعية ـ أوتاوا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى