ابتسمت «شام» فأشرقت شمس غزة…

هاني جودة

عندما تحدّثنا عن صبر غزة، كانت غزة ولا تزال مؤمنة بالنصر الحتمي، فهذا الصبر تلد منه نساء فلسطين أجيالاً ولدت… وأجيالاً لم تولد بعد. لم تكن المعاناة في غزة تُحكى إلاّ بسنابل الأمل وتكتب بمداد الدم، وإنْ بدأت غزة برواية قصتها فتأكدوا أنّ البارود قادم وصوت الانفجارات لن يغادر المكان. أزيز الرصاص غزة، وصوت الصواريخ ينادي فلسطين، ومن الشامِ حبٌ يدوّي في سماءِ القدس، يلتقي الحنين عندَ أسوار عكا ومرفأ يافا ويحلّق نسراً جسوراً يحمي الوطن.

في مساء يوم السابع عشر من تموز الجاري، لأحد عشر يوماً مضت من ركام الحرب على غزة، عاندت «شامُ» الجنين صخب القصف وأصوات المدافع التي كانت تدكّ الآمنين بعد هدنةٍ استمرّت خمس ساعات التقطت فيها غزة أنفاسها، واشترى الآباء ما يستر أبناءهم من الجوع. كانت تنظر من رحم أمها إلى هذا الصخب والضجيج الذي يحدثه قصف ورعد غربان السماء. ما أن انتهت تهدئة الساعات الخمس حتى انتفضت هذه الثائرة من رحم أمها، لعلّها أحسّت أنّ مداد الحياة طلبها لتضع بصمة أنفاسها البريئة على عالم تعبق فمه من الظلم. كانت جريئة حتى في موعد خروجها إلى الحياة، لم تخف من الحاصل ولم تهب واقع الحرب. أعلنت أنها ستأتي كي تشهد أنّ شعبها وأمتها، أمة النصر العظيم، لأعظم صبرٍ في التاريخ، أعلنت أنها ستدوّن معادلة ديمغرافية جديدة.

فكما الشهداء يخلفهم الأحياء على النهج نفسه، تحاصرها رياح شمال غزة. أصوات الانفجارات تعود. انتهت التهدئة، عاد القصف، عناد يقاوم القصف وإرادة الله نافذة. سنعود مع طير العنقاء مخلباً ورمحاً يلوح في الأحياء كلّها. أين ستذهب بنا هذه السيارة. اختارت طريق مستشفى بلسم العسكري أقصى شمال غزة فيه من الأحياء شهداء، أطباء، جرحى، مرضى ومسعفين قذائف تتساقط في كلّ مكان. انقطعنا عن الاتصال المكاني بمن خلفنا. لقد ضُرب الطريق المؤدي إلى المستشفى ومعبر «دمره بيت حانون». قذيفة خلفت حفرة بعمق مترين لا صوت يُسمع سوى الانفجار والقذائف، يرتجّ المستشفى مع كلّ صاروخ، قوات الاحتلال تتقدّم من الشريط الحدودي بالدبابات وتزداد وتيرة القصف للتغطية على دخول الدبابات المعادية. جميع مَن في المستشفى ينظرون حولهم… ما الخلاص؟ ما الحلّ؟ كيف سنتصرّف مع الحالات التي بين أيدينا؟

عادت «شام» إلى الغضب مجدّداً معانِدة كلّ خوف ومنتفضة على كل حالة ارتباك، تصاحبها في رحلة خروجها إلى الحياة جدتاها وأنا. لم يكن إفطار يوم الخميس يوماً عادياً، فالصائم لا يأكل في هذا الوضع المقلق، الأم، الجنين، القصف، على جهاز اللاسلكي يواصل طاقم الإسعاف تلقي التعليمات من مركز قيادة الإسعاف في شمال غزة، طلبوا النجدة لخروج الحالات الإنسانية وفي مقدّمهم «شام»، الحالة الوحيدة التي تصارع الخروج إلى الحياة وسط تقدم الدبابات.

مركز قيادة الإسعاف: نعم لا نستطيع إرسال إسعاف إلى منطقتكم، فالقصف عشوائي. بقيت الأم قلقة والجدتان حولها وقد جهزوها لدخول عملية الولادة، لأنّ الموعد قد حان. «شام» تواسي أمها بعناد الفلسطيني الذي لا يهدأ عندما يُداس طرفه. تزداد حركاتها، يتوقف الطلق عند الأم كلما ازداد القصف. تعيد الأم الكرّة: بحثت عن وسائل فأخبرني الطبيب انه وفي ظلّ الوضع الحالي لا يستطيع وطاقم القسم إجراء العملية. أطلق رجال المقاومة صاروخاً من جوار المستشفى فردّت مدفعية الاحتلال على مكان إطلاق الصاروخ، فارتجّ المستشفى بشكل رهيب، كأنه طار من مكانه. امتلأ المكان بالصراخ، الممرّضات، الحالات المرضية، الجميع في تخبّط وذهول، من أين ستدخل القذيفة القادمة من أي نافذة، إصابات بجوار المستشفى يهرع رجال الإسعاف، ماذا يحدث؟ لا مخرج، لم أدع رقم جوال محمول متوافر لأحد رجال الإسعاف خارج المستشفى أو أصدقاء وأهل خارج المكان إلاّ وشرحت له الموقف. عاندت «شام» مصرّة، نادت جدتها. أمي تهرع إلى الطبيب المناوب. بلغنا وضع الولادة، بعد محاولات صعبة جداً استطاع إسعاف تابع لخدمة 101 الهلال الأحمر الفلسطيني دخول المستشفى بأعجوبة. استجابوا لنداء الحياة الذي أطلقته «شام»، لقد عاندت الظروف وانتفضت على الرعب. أصبحت «شام» تواسينا وتهدئ من روعنا وتقول: أنا هنا جرح الهوى وهناك في وطني جراحُ.

استطاعت الغالبية التسلل نحو أبراج العودة والندى المجاورة للمستشفى هرباً من الموت المحقق. هرعنا نحو إسعاف الهلال الأحمر وبدأ خط المسير الخطر نحو مركز صحي، العودة وسط تل الزعتر شمال غزة، سائق الإسعاف: تماسكوا جيداً سنسلك طريقاً مغايراً… لقد قصف الإسفلت الرئيسي، صوت طائرات الاستطلاع لم يفارقنا طوال خط التحرك، قذيفة مدفعية ضربها الاحتلال على مقربة من باب مستشفى بلسم جميعنا ننظر إلى بعضنا بعضاً، نودّع بعضنا بعضاً. نعم لحظات لم أتخيّل أنه سيعاجلني العمر بها. أمي يا حبيبتي هل سأكون أنا السبب في وداعك. زوجتي و«شام» كلتاهما تنظر إليّ… لا تتركنا سنكون دوماً معاً، عمّتي الحروف تبكي من دمعتها، ننظر إلى بعضنا بعضاً وقد تشهّدنا جميعاً ونحن ممسكون ببعضنا، لا ندري كم من وقت مضى على هذا النحو حتى وصلنا إلى تل الزعتر. «شام»: أنا يا أمي سأكون في أحضانك بعد قليل سأكون مع جدي وعمي وخالي، سنعبر بإرادة الصبر إلى الوطن. نعم حدثت الولادة الطبيعية تمام الساعة 12:15 صباح الجمعة 20 رمضان، خرجت «شام» إلى الحياة وأعلنت بزوغ شمس جديدةَ على غزة، يا شام صرخ الحنين إليك بي أقلعْ ونادتني الرياحُ، يا شام يا بوّابة التاريخ تحرسك الرماح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى