عجز القوة… وإعجاز غزة

د. تركي صقر

ليست المرة الأولى التي يجتاح فيها العدو الصهيوني قطاع غزة براً وجواً وبحراً، وليست المرة الأولى التي يهز فيها مقاومو غزة الكيان «الإسرائيلي» ويقهرون غطرسة جيش الاحتلال الذي لا يُقهر، وليست المرة الأولى أيضاً التي يتبنّى فيها عربان النفط والتخاذل مبادرات مكتوبة بالحبر العبري كي لا تلحق الهزيمة بالعدوان وأصحابه، ولا يختلف اثنان على أنّ الكيان الصهيوني يملك قوة عسكرية هائلة ويملك فائض قوة هائلاً أيضاً، وليس هناك من يجادل في أنّ قوة المقاومة الفلسطينية عسكرياً لا تقاس بالقوة «الإسرائيلية» الحربية الطاغية، إلاّ أنّ هذه القوة مدعومة بمبادرات عربان جامعة الانبطاح العربية لم تتمكن في أيّ مرة من سحق المقاومة وكسرها، وفشلت في إنهائها وإقصائها عن مركزية الدور في مشهد الصراع الدائر في المنطقة.

بات المشهد المتواصل ينبئ بأنّ ثمة سراً كامناً ومؤكداً بين طرفي هذه المعادلة، عمره من عمر الصراع مع العدو الغاصب، المدعوم بلا حدود أميركياً وغربياً ويطلق عليه الخبراء الاستراتيجيون اصطلاحاً «عجز القوة» في مقابل قوة الضعف. وهو السرّ ذاته الكامن في انتصار الدم على السيف، والعين على المخرز، فالقوة «الإسرائيلية» العسكرية الأسطورية عجزت عن استئصال شأفة المقاومة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني وقتل روح المقاومة المتجذرة فيه والحيلولة دون تجدّدها ونهوضها بعزيمة أكبر في كلّ مرة. والعجز الأكبر تجلّى في عدم تمكن أنظمة التآمر العربية من طيْ صفحة القضية الفلسطينية وشطبها من معادلات الصراع في المنطقة، وتحويلها في اتجاهات أخرى بديلة، ليكون صراعاً عربياً ـ إيرانياً بطابع مذهبي متخلّف، وإشعال نيران الفتن الطائفية والدينية والتكفيرية والجهوية والعرقية في أربع رياح الأرض العربية. إلاّ أنّ الرياح هبّت في العدوان الوحشي الجديد عكس ما تشتهيه سفنهم وعادت فلسطين لتكون البوصلة وتكون الأساس على وقع تصدّي المقاومين وضربات صواريخهم على امتداد جغرافيا الأرض المحتلة، لتؤكد أنّ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية ولن يطويها الزمن.

حين بان عجز القوة «الإسرائيلية» مرة أخرى، راحت المبادرات الغربية والأميركية والعربية المشبوهة تتدفق من كلّ حدب وصوب لحفظ ماء وجه نتنياهو صاحب قرار اجتياح غزة وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها. مبادرة مصرية شارك في صوغها سرّاً وفد «إسرائيلي» ومبادرة فرنسية حملها شخصياً الى «تل أبيب» الصهيوني القحّ، وزير خارجة فرنسا فابيوس، ومبادرة حملها أمير قطر إلى أردوغان تتضمن ما يتمناه نتنياهو وأكثر، ومبادرة أميركية حملها كيري إلى القاهرة بالاشتراك مع بان كي مون ونبيل العربي تسعى كلها إلى إخراج المقاومة صفر اليدين بعد مئات الشهداء وألوف الجرحى والمصابين وتدمير كلّ ما استطاعت آلة الحرب الصهيونية الغاشمة تدميره، والمبادرة الأخرى المطروحة الآن هي المبادرة التي حملها تميم آل ثاني أمير قطر إلى عبد الله ملك السعودية رغم القطيعة بينهما، بعدما عجزت المبادرات السابقة كلها.

إنّ المبادرة السعودية ـ القطرية ـ التركية المشتركة، في حال إعلانها، هي مبادرة مفخخة وملغومة وأكثر سوءاً، وستحاول عباراتها المتباكية المنمّقة على الدم الفلسطيني أن تخفي اليد التي تحمل الخنجر المسموم لذبح القضية الفلسطينية ومقاومتها من الوريد، إلى الوريد لقاء وعود مالية مفتوحة لإعادة إعمار غزة وتقديم إغراءات مالية فاحشة إلى ضعاف النفوس من القيادات السياسية الفلسطينية التي نامت في أحضان قطر سابقاً وأدارت ظهرها لمحور المقاومة، ولا نريد هنا أن ننكأ الجروح ونشمت بمن قايضوا دمشق العاصمة التاريخية للقضية الفلسطينية وأهلها بدولارات أصحاب الكروش والعروش، لقاء تلميع صورتهم المنبوذة والمكروهة على حساب دماء الشهداء الطاهرة.

لا نستبعد أن تكون كثرة المبادرات مناورة متفق عليها لإطالة أمد العدوان، وبعض الأنظمة في الخليج، وخاصة السعودية، تعمد إلى المماطلة كي يكمل نتنياهو خطة القتل والتدمير كاملة غير منقوصة، أملاً في أن تنهك قوى المقاومة الى درجة ألا تقوم لها قائمة بعد الآن، فيغدو الطريق مفتوحاً أمام السعودية وقطر وتركيا لتصفية القضية الفلسطينية وفق مبادرة أسوأ من تلك التي طرحها الملك عبد الله في القمة العربية في بيروت مطلع العقد الأول من هذا القرن، ومن دون رفع الحصار وما يحزنون، وهذا ما يسعى إليه جون كيري في جولاته المتكرّرة إلى المنطقة لكي يسجل إنجازاً تاريخياً لأوباما الحائز سابقاً جائزة نوبل للسلام! ولكي يُضاف هذا الإنجاز إلى سجله ! قبل نهاية ولايته الرئاسية الأخيرة.

إنّ المبادرات التي طرحت حتى الآن تصبّ في مصلحة العدوان «الإسرائيلي» وتهدف إلى إبقاء الحصار على غزة وتحويلها الى سجن كبير وتحويل ساكنيها الى رهائن، وبلغت هذه المبادرات حدّ المساواة بين الجلاد والضحية، ورأى بعضها أنّ من حق العدو «الإسرائيلي» أن يشنّ حرباً على غزة «دفاعاً عن نفسه»، كما هي حال المبادرات التي يقودها جون كيري الذي يجول في المنطقة منذ بداية العدوان، والهدف أن يحقق العدوان أهدافه كاملة، وفي مقدمها القضاء على رجال المقاومة الفلسطينية أو تصفية معظمهم جسدياً على أقلّ تقدير.

يبدو أنّ الصمت العربي الرسمي المريب على العدوان الوحشي «الإسرائيلي» على غزة، الذي يتجلى أكثر ما يتجلى في موقف السعودية وأنظمة الخليج الأخرى، يخفي هدفاً واضحاً هو استغلال الحرب الإرهابية التي تتعرّض لها معظم البلدان العربية، وخاصة ما يحصل في سورية والعراق والمدّ التكفيري الوهابي فيهما، لإنهاء القضية الفلسطينية التي استقالت منها هذه الأنظمة منذ ما قبل كامب ديفيد. ولن يقف هذا الاستغلال عند حدود غزة بل سيتعدّاها إلى تحقيق الهدف الصهيوني الأهمّ، المتمثل في الانتقال الى يهودية الدولة وطرد مواطني 48 بسهولة ووقف أيّ تفكير في حق العودة وإقامة ما يُسمى «دولة داعش» أو «الإمارات الإسلامية» في العراق وبلاد الشام، وهذا يقدم أكبر خدمة إلى يهودية الدولة التي تمثل جوهر الفكر الصهيوني. ومهما حاولت السعودية وأنظمة الخليج التهرّب من مسؤوليتها في ظهور هذه الإمارات التكفيرية، فإن الوقائع تؤكد وقوفها وراءها تمويلاً ودعماً وتسليحاً وتشجيعاً على الإجرام على مدى سنين.

رغم الخلل في موازين القوى بين المقاومة وجيش العدو الى الحدّ الأقصى، ورغم الموقف العربي الرسمي المخزي، ورغم الخسائر الفادحة من جراء وحشية «إسرائيلية» غير مسبوقة، بقيَ أبطال المقاومة في غزة الرقم الصعب، ولم تستطع آلة الحرب الصهيونية الجهنمية أن تكسر إرادة الشعب الفلسطيني في غزة وأن تسلب حقه في المقاومة، وإعجاز غزة أنها أظهرت عجز القوة «الإسرائيلية» على حقيقته، وإعجازها الباهرالأسطع يكمن في أنها تقاوم وهي مطوّقة بحصار خانق وتقاتل بالصدور العارية شبه وحيدة أقوى جيش وأشرس عدوان وأخبث تآمر من النظام العربي الرسمي، وهي تثبت في كلّ ساعة من هذه الملحمة البطولية جدارتها في صناعة النصر ورفع الظلم التاريخي عن فلسطين وشعبها مهما كان الثمن.

tu.saqr gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى