مقهى ومكتبة «قيصرية حنش» في بغداد ملاذ المثقفين وفسحة للاسترخاء والأغنية الراقية

كتب عبدالجبار العتابي من بغداد: بعد أن تتعب الاجساد من التجوال جيئة وذهاباً في شارع المتنبي، لا سيما في يومه المميز به، الجمعة، تتهادى الخطى بهدوء نحو القيصرية التي أصبحت مقهى واسعاً سرعان ما يتحول الى منتدى ثقافي يلتقي فيه المثقفون على اختلافهم فيتجاذبون أطراف أحاديث شتى، وربما كل ما يخطر في البال مما يشغلهم ويشغل المجتمع.

يتوزع كثر مساحات المكان، دوائر أو مربعات او مستطيلات، ويمارس البعض الاسترخاء والشعور بالمتعة داخل مناخ يشعر به متناغماً مع ما يجيش في دواخله ومتلائماً مع رغبته في الاستمتاع بالاندماج مع الآخرين أو الجلوس وسطهم، حتى وإن لم يشاركهم أحاديثهم. المهم لديه أنه يمارس طقوسه. يأتي ويلقي بجسده على أي كرسي، تحت الظل أو في الشمس، يطلب الشاي البغدادي المهيّل الساخن الذي تسبقه رائحته، فيتلذذ به كأن صوت الملعقة وهي تطرق أطراف «استكان» معزوفة لأ أروع منها، خاصة اذا تناغمت مع معزوفات الآخرين، فمساحة المكان ليست كبيرة وهو يحمل اسم «قيصرية المصرف» نسبة الى المصرف هناك. يضم أيضاً محال تجارية ومكتبات اشتهرت بينها مكتبة «كريم حنش». لم يكن لافتاً للأنظار، فهو مجرد مساحة فارغة، إلاّ بعدما استطاعت مكتبة حنش استقطاب الأدباء والمثقفين اليها لأسباب تتعلق بالشخص ذاته كريم حنش الجنوبي الذي يبيع الكتب بأسعار مخفضة، فضلاً عن وجود الكتب النادرة، وتميز بكونه يبث أغاني قديمة لكبار المطربين العراقيين والعرب. يعلو الصوت ليملأ المكان ويتعداه الى الشارع كأنه يثير في الآخرين الحنين فيجذبهم الى المكان الذي يُعتبر الأرحب والاهدأ قياسا بصخب الشارع يوم الجمعة، كما أنه المكان الذي يمكن الجلوس فيه حين لا تسنح الفرصة للجلوس في مقهى «الشابندر» لكثرة رواده. ومع الوقت اكتسبت القيصرية اسم كريم حنش، ثم صار يطلق عليه قلعة الليبرالية ، فأضحى المكان مقهى، خاصة إذا وجد بائع الشاي رزقه هناك فأحضره عدته وركزها في المكان مع عدد من الكراسي والارائك.

منذ سنوات يمثل هذا المكان دار الاستراحة للأدباء والمثقفين الذين يأتون الى شارع المتنبي كل يوم جمعة، حتى صارت الخطى المتجولة في طول الشارع وعرضه لا تجد إلاّ أن تمر من هناك وتبحث عن الاسترخاء والحميمية التي يمنحها التعوّد، وفيه تشاهد الكثير من المشاهير على صعيد الأدب والفن، وعلى اختلاف التوجهات.

يقول كريم حنش: «بدأت نشاطاتي بعد التغيير عام 2003 مباشرة، لكن بعد الانفجار الإرهابي في شارع المتنبي برز إعمار القيصرية بشكل أكبر عن طريق مكتبتنا، أي مكتبة الحنش، التي كانت تستقبل المثقفين من مختلف المحافظات. ومثلت مكتبتي جانب الجذب هنا. ومن غير عنصرية يمكنني القول إن الجو الجنوبي خلق نقطة ارتكاز قوية جداً في الثقافة البغدادية، بعيداً عن ثقافات المكتبات التي تعنى بالبيوت والمجالس البغدادية، إذ نحن من ثقافة حصار وثقافة استنساخ الكتب. ما يميز المكان هو توفير جو خاص، زائد الأغاني التي نبثها وتخلق استقطاباً مريحاً للأدباء والكتّاب. وهذه الاغاني هي عامل وعي في وجه بذاءة الأغاني التي نسمعها من الفضائيات. سميت القيصرية باسمي، نسبة الى مكتبتي مكتبة الحنش بالمصادفة، ويرتادها الادباء والمثقفون لوجودها في هذا المكان. القيصرية تابعة لامانة العاصمة وهي عمارة المكتبة البغدادية».

من ناحيته، يقول الفنان التشكيلي فهد الصكر: «ندرك تماماً أن شارع الثقافة المتنبي ، هو المكان الوحيد الباقي على قيد الحياة. من خلاله نشعر بأن ثمة أملاً باقياً نتنفسه لوعي فكرتنا القادمة. يميز هذه القيصرية أنها ملاذ حي للثقافة والحوار ومتابعة الإصدارات الأدبية الجديدة. وهو لقاء الأدباء بمختلف مشاربهم قد تنضج هنا فكرة عمل أدبي لحكايات مشتركة، بل أعتبره أمراً واعياً هذا المكان إذ يشهد أكثر من اجتماع، فقد غادر العديد من الأدباء تحت ظروف معينة جلسات اتحاد الأدباء. هنا يوقع معظم الأدباء إصداراتهم الحديثة، كما شارك أدباء عراقيون مغتربون كثير في هذا الكرنفال الاحتفالي للثقافة. أمست قيصرية حنش معلماً ثقافياً لا بد من الإشارة إليه في مدوناتنا التي تؤرشف المكان الذي يحمل ذاكرة لغد أجمل».

المخرج المسرحي جبار محيبس يقول: «يجذبني الى القيصرية كريم حنش، هذا الرجل البنّاء الذي حوّل مكتبته أيام النظام السابق الى مكتبة استنساخ كتب نتداولها ونتسلّم منه الكتب الممنوعة. هذا أولاً. وثانياً يجذبنا بائع الشاي ذو البساطة والبراءة الجنوبية والذي يذكرنا بالماضي. يجذبني إسم المكان الذي يذكرني بالقيصر بعد ذهاب القياصرة، كما يجذبني إليه اصدقائي الفقراء وشكله اليوناني الذي يذكرنا بالمعابد اليونانية الذي نشأ المسرح تحت ظلال أقواسها، وهنا جمالها الأخاذ. كذلك من يدخل القيصيرية يجد نفسه داخل مختلف الأزمنة، فهي برلمان حر يلتقي فيه المثقفون، لكنني لا أميل الى أن تتحول إلى مكان للمزايدات السياسية واحتفالات الأحزاب، فلسنا في حاجة الى التحوّل خيمة لأحزاب خذلتنا كثيراً. حين أجيء الى القيصرية استمتع فيها كثيراً لأن فيها الكثير من البراءة وأنا أميل الى الأمكنة البريئة حيث الأغاني الريفية العراقية التي أسمعها للفنانين الكبار، مثل داخل حسن وناصر حكيم وحضيري أبو عزيز. لذلك تذكرني القيصرية بكل شيء وتجعلني خارج الحاضر بآلامه وويلاته وتنقلني الى الماضي والمستقبل أيضاً. القيصرية سؤال دائم يبحث عن أجوبة. إنها امتدادات لأحلامنا الموؤودة، معبد مسرحي نعيش فيه لحظات حقيقية رائعة».

الشاعر زعيم النصار يقول: «ثمة مقولة جميلة جداً أعتقد أنها لريلكه أو لشكسبير، تقول: ما المدن لولا الناس. إن مجيئي الى القيصرية هو مجيء الى أصدقائي من المثقفين العراقيين ولي علاقات شخصية وثقافية بهم من خلال الأماكن التي أعمل فيها ودار النشر التابعة لي الروسم ، لذا فإن علاقاتي مع أصدقائي تاريخية، علماً أنني أستمتع بهذا المكان قرب مكتبة الحنش حيث أسمع الغناء العراقي القديم واختياراته المميزة من قبل كريم حنش، وأشرب هنا الشاي العراقي الجيد وأشاهد نساء جميلات وجدن في المكان ملاذاً جميلاً. هنا نحن نلتقي في مختلف المواسم، ولا أعتقد أن حرارة الجو تهمنا أو تمنعنا، فالمشاعر حيال المكان والأصدقاء والكتب تجعلنا ننسى الحر، فتمر ثلاث ساعات ممتعة من دون أن ندري أو نشعر بالحر، ويسعني القول إن العراق جهنم حمراء، لكنه جنة جميلة جداً».

الشاعر عدنان الفضلي يقول: «لا يستطيع العديد من الأصدقاء الأدباء والمثقفين تغيير طقوسهم السبوعية التي يمارسونها في شارع الثقافة العراقية شارع المتنبي ، رغم أنها طقوس متشابهة او مستنسخة يمارسها الجميع، سواء كانوا مثقفين أو غير مثقفين! إلاّ أن ثمة طقساً واحداً يمارسه النخبويون فحسب، ولا يأبه به كثير من رواد الشارع المذكور، هو زيارة قيصرية الحنش، فهذا المكان يجذبنا نحن الباحثين عن استراحة حقيقية، إذ يجعلنا نسترخي ونستمع إلى روائع الأغاني العراقية والعربية الأصيلة التي يبثّها جهاز التسجيل العائد للصديق العزيز الكتبي المخضرم كريم حنش، صاحب المكتبة التي سميت القيصرية على اسمها. قيصرية الحنش هي فعلاً المكان المثالي للاسترخاء بعد جولة متعبة ومتشعبة في الأمكنة التي يضمها شارع المتنبي، فذائقة كريم تنعش بأغاني الزمن الجميل، وثمة نخبة من الأصدقاء حول أكثر من طاولة حوار ممتع ومفيد ومثير، بعد أن يتشاركوا شرب الشاي من يد صاحب المقهى الموجود في القيصرية، حافظ أبو الچاي. ويسعك أن تبحث او تسأل عن أي كتاب او مطبوع ترغب في اقتنائه، فصديقنا الحنش يعدّ مرجعاً أعلى في هذه المسألة التي ما عادت تؤرقنا بفضل فتاوى الحنش الثقافية، فما أن تسأله عن أي كتاب حتى يدلّك على مكان وجوده، فالرجل هو الأخبر بين أصحاب المكتبات في قضية الاستنساخ، منذ تسعينات القرن المنصرم إلى اليوم».

– See more at: http://www.elaph.com/Web/Culture/2014/7/925246.html sthash.7FzdCMiW.dpuf

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى