من يحمي الوطن؟ «خِيال الصحرا» أو «خيّال المهرة»!

علي بدر الدين

أصاب رئيس مجلس النواب نبيه بري في تشبيهه مجلس النواب بـ«خيال الصحرا» والحكومة بـ«الصحراء». بسبب تعطيل عملهما المتعمّد حيناً والكيدي حيناً آخر. وهو يجيد بامتياز تطابق الأمثال والحِكم على الواقع بفضل تمكنّه وتمرسّه في الوطنية والسياسة والتشريع، ولطالما انتظر اللبنانيون مبادراته لولوج الحلول العديد من القضايا والملفات الخلافيّة الصعبة والشائكة التي تشكل على الدوام حجر الأساس لأي حوار أو انفتاح بين القوى السياسية المختلفة حتى على «جنس الملائكة».

لا شك، في أن الرئيس بري لا يصدر بمقاربته لتعطيل عمل مجلسي النواب والوزراء حكماً مسبقاً على واقع الحال التشريعي والتنفيذي والسياسي، إذ يملك الكثير من الوقائع والمعطيات التي تؤشّر إلى مرحلة أصعب وأخطر تتربّص بلبنان إذا لم يفلح الأفرقاء أحزاباً وكتلاً نيابية وقيادات رسمية في التوافق على حل، ولو بحده الأدنى، لقضايا تشريعية دستورية ونقابية ومالية تخفف من الاحتقان الطائفي والمذهبي والسياسي الذي بلغ حداً ينذر بالشر المستطير.

ولـ»خيال الصحرا» مكانه في موروثنا الشعبي ودوره وضرورته في الأرياف اللبنانية، ابتكرته مخيلة المزارعين لحاجتهم إلى «شبح» يكون على شاكلة الإنسان لردع الطيور والحيوانات البرية التي تقوم بغزوات ليلية على حقولهم المزارعين الذين ما زالوا إلى اليوم يعتمدون على مجسّم مركّب من الخشب والقماش «الرث» لإخافة «خفافيش الليل» وإن تفاءلوا بنسبة كبيرة بعدما هجر المزارعون أرضهم وحوّلها المالكون الجدد إلى مساحات إسمنتية.

من حق مخلوقات الله أن تبحث عن رزقها الحلال أو الحرام في أيّ بقعة تنعدم فيها المراقبة والمحاسبة ويطمئن فيها الغازي والسارق إلى طغيان الفوضى والفلتان وغض النظر عن الأنظمة والقوانين التي تحاسب وتعاقب وتردع، وتكون صمام أمان لحسن سير العمل وأداء العاملين. يقول المثل الشعبي: «المال السائب يعلّم الناس الحرام»، فكيف بالطيور والحيوانات المتفلتة من القيم والضوابط والأنظمة التي تلاحق المرتكِب وتحاسبه وتعاقبه! والتي تحتاج فعلاً إلى قليل من الرزق «الحلال» لسد جوعها.

غير أن الإنسان المطبوع على «الأنا» وحب الذات لم يفكر إلاّ في مصلحته وأرزاقه من دون أن ينظر بعين العطف والقيم إلى مخلوقات مهمّشة تبحث عن طعامها الذي لا تحصّله إلا في سواد الليل. لكن مكر الإنسان أدّى إلى ابتكار نصب يعكس صورته، ونجح في توجيه «ضربة قاسية» إلى أخصامه المعتدين لأنهم ضعفاء بلا حول ولا قوة ولا أحد يدعمهم أو يوفر لهم الغطاء والحماية. وحكماً عجز المزارع الفذ عن ردع أمثاله الذين يقتحمون «صحراءه» في وضح النهار لأنهم الأقوياء وهو الضعيف المتروك لقدره والفريسة السهلة أمام الطامعين.

المجلس النيابي اليوم أشبه ما يكون بـ«خيال الصحرا» لأنه غير قادر على عقد جلسة تشريعية واحدة حول أي ملف من الملفات الكثيرة العالقة والمجمّدة بفعل فاعلين، علماً أن البلاد والعباد أحوج ما تكون في هذه المرحلة الصعبة والاستثنائية عن الصعد كافة إلى جلسات التشريع النيابية ومثيلاتها المكتملة النصاب القانوني لانتخاب رئيس جديد للجمهورية فـ»لبنان مثل جسم إنسان فإن كان بلا رأس علينا أن نأتي به»، وفق الرئيس بري، والحاجة ملحة أيضاً إلى عقد جلسة نيابية مكتملة لإقرار سلسلة الرتب والرواتب التي تحوّلت إلى «شمّاعة» يعلّق الكلّ مواقفه ومصالحه وتكاذبه عليها فنسمع جعجعة ولا نرى طحيناً.

أما «صحراء» الحكومة فحدّث ولا حرج، فهي لا تشبه «خيال الصحرا» في شيء. على الأقل يفيد هذا الأخير المزارع وينتفع من وجوده، رغم جموده وظلمه، أما هي فقاحلة، جرداء، لا نفع فيها لـ«خيال الصحرا»، إذ تفتقد الزرع والماء والكلأ وحتى الوجه الحسن، وتعيش وتستمر على المهدئات السياسية والاطمئنان الطائفي والمذهبي والحاجة إلى وجودها كي لا تكتمل عناصر الفراغات الدستورية والسياسية في السلطات، في ظل صراعات سياسية وطائفية ومذهبية، وإرهاب يتهدّد لبنان واللبنانيين. وبقاؤها أفضل بكثير من عدمه، مع أن الفشل يضرب أطنابه في مفاصل الجسد اللبناني حتى العظم، والعلّة قد لا تكون فيها وحدها، بل في أداء بعض الأفرقاء المكوّنين لها الذين يغنّون على ليلاهم، ويبحثون عن مصالحهم ومواطئ أقدامهم، علّهم يحققون في خضم الصراعات القائمة والاستهدافات والتحديات السائدة والمنتظرة ما عجزوا عن تحقيقه في أزمان ماضية. إنه الوقت الضائع الذي تترجم فيه الأحلام والتمنيات والطموحات الضيقة والخاصة، من دون حساب مصلحة البلد وحاجات الناس المخنوقين والمحاصرين بالآلام والمعاناة والأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة والقاسية.

إن الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة من خلفها تشكوان وتئنان مثل المواطن من سوء أداء الوزراء وغياب الدولة والاعتراف بالأخطاء والتقصير والفشل وانعدام الحلول كمبررات متاحة أمامها للهرب من تحمل مسؤولياتها الوطنية، وعجزها عن القيام بالجهود المطلوبة بحكم مواقعها السياسية والحكومية لإخراج المواطنين من دوائر القهر والظلم والفقر ومن حالات الإحباط واليأس والكفر. رغم صرخات الاستغاثة والوجع من فقدان أبسط مقومات الحياة وفي مقدّمها الأمن الاجتماعي، فالكل يعاني من شح المياه غير الطبيعي وغير المسبوق، ومن التقنين القاسي في التيار الكهربائي الذي وصل إلى الحد الأدنى، ونحن في القرن الحادي والعشرين ونتغنى بالحضارة والشطارة والتنوع الثقافي، فأين نحن من دول يقال إنها الأكثر فقراً، وأدنى مستوى معيشة؟! ففيها يؤمّن التيار الكهربائي 24 على 24 ساعة، مثل سيريلانكا، وحتى بنغلادش… أين نحن من جشع التجار ونهمهم إلى تكديس الأموال وقد أصبحت لهم اليد الطولى في رسم السياسة الاقتصادية والتلاعب في مصائر الناس والتفلت من جميع الأنظمة والمراسيم وما يسمى جمعية حماية المستهلك واتحادات عمالية ونقابات وهمية.

من يحمي المواطنين ويدافع عن حقوقهم وكراماتهم في زمن شحّت فيه المروءة والهمم وتحوّل الوطن إلى مطيّة لدى البعض لبلوغ أمجاد زائلة وجمع أموال طائلة؟ ومن ينقذ الوطن من سياسييه المختلفين على كل شيء، المتفقين على أنهم هم أو لا أحد سواهم، لهم القرار والحكم واليد المطلقة ولهم الأمر، وعلى الرعية السمع والطاعة!

إن لبنان في حاجة إلى «خيّال المهرة» وليس إلى «خيال صحرا» فهل تتحقق هذه الأمنية اليتيمة التي قد تحدث الفرق والتغيير؟ ويضع «خيّالو» البلد، أو هكذا يعتقدون، الحلول على السكة الصحيحة بإنجاز الاستحقاق الرئاسي، واعتماد قانون انتخابي تمثيلي، وحل ملفات سلسلة الرتب والرواتب، والجامعة اللبنانية والأساتذة والطلاب ورواتب الموظفين العالقة بين السياسة والقانون، وتوفير المياه والكهرباء للبنانيين الذين يدفعون فواتير مضاعفة للقطاع الخاص بعدما تقاعست الدولة عن القيام بواجباتها وتحمل مسؤولياتها. وتركت لتجّار المياه وأصحاب المولدات الكهربائية التلاعب بلقمة عيش المواطن واستغلاله وسرقة أمواله؟ والأغرب أن الحكومة شرّعت هذه التجارة وتصدر لائحة شهرية بالأسعار لأصحاب المولدات، في حين أن باعة المياه يتلاعبون بالأسعار وفق مصالحهم ولا من حسيب أو رقيب أو مجيب.

«اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى