لعنة الكوارث الجوية

علي بدر الدين

مأساة جديدة حلّت بالمغتربين اللبنانيين في بوركينا فاسو، جراء تحطّم الطائرة الجزائرية، الذين كانوا على متنها في كارثة جوية أودت بحياتهم، وهم في طريق العودة إلى الوطن لقضاء عطلة الصيف في مدنهم وقراهم مع الأهل والأقارب والذكريات الجميلة. لكنّ القدر المتربص، حال دون اكتمال سعادة اللقاء، وفرح الأطفال الذين سبقتهم أحلامهم، وكأنهم على موعد مع أترابهم، يتمنون اختصار الوقت والمسافات للارتماء في أحضان الأجداد والجدّات مع الأدعية المتواصلة بالسر وبالعلن، أن لا يحصل أي تأخير في موعدي إقلاع الطائرة ووصولها إلى مطار بيروت، لأن هناك مَن ينتظر بفارغ الصبر والشوق اللقاء الموعود، الممزوج بالابتسامات ودموع الفرح التي تنهمر بعفوية وبراءة قبيل حدوث واقعة لقاء العودة الميمونة. المستقبلون تسمّروا في أماكنهم لا يغادرونها، وعيونهم شاخصة وموجهة من دون غفلة أو حراك إلى بوابة خروج الركاب الوافدين من جهات الأرض، تحدّق بالوجوه وتلاحق بأسئلتها التي لا تنتهي عن هوية الطائرة ومن أين هي قادمة علّهم يطمئنون قرب موعد وصول الطائرة المنتظرة أو هكذا يخيّل إليهم، علماً، أن الشاشات المعلقة في قاعات المطار تعلن عن مواعيد وصول الطائرات والمستجد فيها من تبكير أو تأخير.

غير أن الطائرة الجزائرية التي تقل العائدين إلى الوطن والمفترض أن تصل في الموعد المحدد لها إلى مطار رفيق الحريري الدولي، وهي أقلعت فعلاً من مطار أوغاداغو في بوركينا فاسو وقد تجاوزت موعدها بدقائق وساعات. وما زاد «الطين بلة» وحرّك المواجع أن كلمة تأخير ظلت ثابتة لم تتغيّر وشكلت مؤشر بؤس وتشاؤم. وزرعت القلق والخوف على وجوه الأهالي المنتظرين، فاختفت الابتسامات التي كانت توزع على كل الوجوه، وساد الصمت الرهيب والخوف من مفاجآت غير سارة لم تكن في الحسبان. وبعد ساعات من الانتظار والحيرة والارتباك وتكاثر التساؤلات أطلق أهالي المغتربين العنان لهواتفهم النقالة في رحلة بحث عن الحقيقة، وتأكدوا من أقاربهم ومعارفهم في بوركينا فاسو أنّ الطائرة أقلعت فعلاً من المطار هذه المعلومة الأكيدة رجحت حصول أمر خطير للطائرة الجزائرية الذي سرعان ما انتشر خبر تحطمها في جمهورية مالي بعد نصف ساعة من إقلاعها. وكانت الحقيقة القاتلة والمأسوية والفاجعية ومعها تحول فرح الانتظار المأمول إلى حزن عارم، وتحول الصمت المسكون بالهواجس والصبر إلى صراخ مجلجل ونوبات من البكاء لم ولن تتوقف على فقد الأحبة الذين لم تصل جثامينهم أو ما تبقى منها من أشلاء في القريب لاعتبارات كثيرة مؤلمة وقد يطول زمن البكاء والحزن والسواد، لأن جثث الركاب تحولت إلى أشلاء متباعدة أو حتى إلى رماد بفعل قوة السقوط والانفجار والاحتراق.

هذه الكارثة الجوية التي من بين ضحاياها عائلات بأكملها، سبقتها كارثتان جويتان أشدّ إيلاماً ووجعاً ومأسوية وإن تنوعت الأمكنة والمواعيد والوجوه والأسماء وأعداد الضحايا فحلت كارثة الطائرة الجزائرية لتكمل مشهد الأحزان والآلام والأقدار المتربصة باللبنانيين أنّى حلوا وأينما كانوا وأي وجهة قصدوا فهم دائماً في عين العاصفة وقلب الحدث بل هم الحدث في داخل الوطن وفي خريطة يدفعون باستمرار الضرائب بالجملة والأثمان الباهظة بالأرواح والأنفس والممتلكات لأنهم جادون بإصرارهم على خوض غمار الحياة بكل ما فيها من آلام وأحلام وطموحات ومغامرات، ولأنهم تواقون دائماً إلى النجاح ولو يحفر الصخور الصماء بإبرة الصبر وطول الأناة وحبات عرق الماس التي تروي ظمأهم رغم الأخطار والتضحيات والمعاناة، وها هم لم يتوانوا أو يتراجعوا عن مسيرة كفاحهم ونجاحهم رغم الكوارث والفواجع التي تحلّ بهم، وقبل أن يخرجوا من كارثة أو فاجعة أو مأساة يتعرضون لمثلها وكأنه كتب عليهم سلوك طريق الشوك والدم والقهر. وكأن الأحزان باتت لازمة أبدية لحراكهم تلاحقهم في الوطن وبلاد الاغتراب، ولم ينسَ أهالي ضحايا طائرتي كوتونو والأثيوبية أحباءهم، ودموع الألم والفراق ما زالت تذرف وإن توقفت لأنها تحجرت في مآقي عيونهم لتبقى شاهدة على المأساة المدونة في الاسم والتاريخ على أضرحة يحتضن ترابها أجساداً طاهرة وتمهرها دموع الأمهات والزوجات والأبناء والآباء.

ليس من العدل تحميل الدولة في لبنان مسؤولية الكوارث الجوية، وفقدان الأحبة، لأن هذه الكوارث تحصل لأسباب تقنية أو مناخية أو بفعل إرهاب.

مسؤولية الدولة تكمن في نظامها السياسي الطائفي الحصري، التهميشي والإلغائي، وفي سياساتها المعتمدة في مقاربة قضايا الوطن وأولويات المواطنين مسؤوليتها في أنها لم تبن دولة قوية متماسكة عادلة لم تفعّل المؤسسات وتحتكم إلى القانون والعدالة والثواب والعقاب. مسؤوليتها أنها لم تعالج قضية أو موضوعاً بالجدية المطلوبة، بل تعمد دائماً إلى التأجيل والإهمال وإلى سياسة «الرفوف والأدراج» فتراكم الأزمات وتنعدم الحلول وتُشلّ المؤسسات وتسود الفوضى والفساد والهدر وتعمّم الصفقات وتكثر «المافيات».

الدولة هي المسؤولة الأولى عن هجرة اللبنانيين القديمة والحديثة لأنها لم تلبِ متطلباتهم ولم تخطط لقيام مشاريع استثمارية إنمائية منتجة تشغل اليد العاملة وتقضي على بطالة مقنّعة طاولت كل الأجيال والفئات. لم تتحمل مسؤولياتها في كثير من المجالات في السياسة والأمن والاقتصاد والصحة والتربية فتركت «الحبل على غاربه» وبدلاً من أن تحتكم إلى المؤسسات والأنظمة والقوانين احتكمت إلى المصالح والطوائف، وتوزيع الحصص والمكاسب والمواقع والحقائب من دون مراعاة الكفاءة والنزاهة أو الرجل المناسب في المكان المناسب، فوصل لبنان إلى ما هو فيه اليوم من عدم استقرار واهتزازات أمنية وانهيارات اقتصادية وصراعات واقتتال وانقسامات لا تنتهي.

ومسؤولية الدولة أنها لم تواكب الصحوة الاغترابية ولم تقدر ثروتها الوطنية، ولم تضع حكوماتها المتتالية أي سياسة اغترابية واضحة تحمي المغتربين وتصون مصالحهم وحضورهم وتوظف طاقاتهم وإمكاناتهم ولم تلتفت هذه الحكومات إلى الجامعة اللبنانية الثقافية المؤسسة الاغترابية الأم وبدلاً من توحيدها وإعادة تفعيل أجهزتها وهكيلتها قامت «بمسايرة» الخارجين عنها المتمردين على شرعيتها، فشجعت على شرذمتها بدل لمّ شملها.

لن نحمّل الدولة مسؤولية كارثة الطائرة الجزائرية وما سبقها من كوارث مماثلة لكن عليها أن تكون جاهزة ومستعدة لمواجهة كل طارئ وكان عليها بعد كارثتي طائرتي كوتونو والأثيوبية أن تشكّل لجنة طوارئ لمواكبة حوادث الطيران وغيرها، لكنها لم تفعل، كما أنها لم تستجب لطلب المغتربين بتمدد خريطة طيران الشرق الأوسط إلى الدول التي يوجدون فيها أو إلى دول قريبة علّها تخفف من الكوارث وتحمي اللبنانيين العائدين إلى الوطن أو المغادرين إلى أماكن أعمالهم، مع أسعار تنافسية لتذاكر السفر لأن «الميدل ايست» تتميز عن غيرها من الشركات بأسعارها المرتفعة.

إن الكوارث الجوية كانت لعنة تلاحق اللبنانيين فهل هي أقدار أم إرهاب يضرب في كل مكان وزمان، أم الاثنان معاً، لا خيار لنا سوى التسلح بالصبر والإيمان بقضاء الله وقدره وبالرحمة والصلوات على ضحايا الاغتراب شهداء الوطن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى