مجتمع المقاومة والدولة العميقة والعدوان على غزّة

محمد أحمد الروسان

السياسة معادلات حسابية، وفي السياسة وعلمها لا غنى عن الرياضيات السياسية، وأجمل ما في الرياضيات أنّها لا تكذب ولا تنافق ولا تجامل العواطف والعقول، وأساس علم الرياضيات المنطقية البديهيات، والأخيرة هي القضايا الفكرية التي لا تحتاج إلى براهين.

تشير معظم المعلومات المرصودة والمعطيات الجارية والتطورات الدراماتيكية اليومية وقراءات إحداثيات علم الإنذار الباكر، كعلم بحثي استقرائي تطبيقي لجهة ما يجري على المسرح كلّه في المنطقة، والمتفاقم لجهة التصعيد وفي جلّ مفاصله وتفاصيله، أنّ ما حصل ويحصل وسيحصل في الساحات العربية لاحقاً، هو تحريك أميركي استخباريّ لبنى المجتمعات ونواتها عبر توظيف الحراكات العفوية والاحتقانات الأفقية والعمودية، لإسقاط نظم سياسية انتهى دورها الوظيفي، وإصلاح أخرى ما زالت تقدّم أوراق اعتماد دورها الوظيفي المتسق مع أجندة الحكومة الأممية الحاكمة في العالم البلدربيرغ الأميركي ، وصناعة نظم سياسية جديدة وهياكل منها مثل «أعجاز نخل خاوية» إنّما بعناوين الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، عبر ما يسمّى مجازاً بـ»الربيع العربي»، ودفع الجانب الرسمي للقيام بأعمال مضادّة له تحقيقاً لاستراتيجية الفوضى الخلاّقة.

والسياسة الخارجية الأميركية وحراكاتها الدبلوماسية الاستخباريّة والمسنودة دائماً وأبداً من مجتمعات الاستخبارات في العاصمة الأميركية واشنطن دي سي، إن لجهة الوقائي منها، ولجهة الهجومي كذلك، توصف بأنّها سياسة مرتبكة ومترددة وفوق ذلك شديدة التلوّن، وخاصةً في ظل الظروف الراهنة في منطقة الشرق الأوسط، وفي نطاقات جغرافية العالم العربي. وما حدث حتّى اللحظة ويحدث وسيحدث لاحقاً، من ثورات شعبية وحراكات مستمرة تقود في نهاية الأمر وفي ظل الضياع الاستراتيجي لبعض العرب التابع إلى تغير أنظمة حكم يعود بعضها إلى العصور الوسطى وإحلال البدائل الفوضوية مكانها، بغية إنشاء سياقات ومسارات جديدة لنظم سياسية حديثة هي ثمرة الفوضى الخلاّقة التي أرادها «البلدربيرغ»، نواة الحكومة الأممية والبلوتوقراطية الأميركية. فالسياسة الأميركية هي مع كل ما يخدم مصالح محورها مع الكيان العبري وكيانات أخرى في المنطقة، وليس لدى واشنطن ما يمنع من إسقاط حتّى حلفائها من العرب، تهمّها مصالحها وأمن « إسرائيل « فحسب، مسقطةً ذلك على دول الجوار الفلسطيني المحتل، وبعض الأخير دول جوار سوري. مع التسليم بأنّ حراك الشارع العربي عبر سلسلة من متتاليات لثورات واحتجاجات شعبية، بعضها في ظاهرها مطالب اقتصادية، وفي باطنها التغيير وإسقاط الأنظمة و/أو تقليص صلاحياتها، وبعضها الآخر على العكس تماماً، لكن بمستويات أقل حدة في سقف المطالب الشعبوية، وكلّها تشي بوضوح أنّ ثمة خريطة عربية جديدة، يتم تشكيلها وعبر الشعوب العربية بحراكاتها وعبر مستويات الضعف أحياناً والقوّة أحياناً أخرى، وتقود في نهاية المطاف إلى ثورة عنيفة، ذات عناوين متشابهة إلى درجة التساوق في الظاهر والباطن، وعبر المحفزات العديدة في كل دولة قطرية وبحسب ظروف شارعها ومحركاته ودوافعه وأسبابه وتطلعاته.

بعبارة أخرى، يتم توظيف هذا الحراك للشارع واستثماره في إحياء وإخراج وتفعيل الدولة العميقة، نواة النظم السياسية المسقطة أو المراد إصلاحها وتحت مسميات جديدة، من خاصرة حراك الشارع نفسه عبر مجتمعات الأجهزة الأمنية المختلفة.

كما يشي هذا الحراك في جانبه العفوي أو غير العفوي، كيفما وصفته في بنية المجتمع العربي، بأنّ هناك وعياً ديمغرافياً سكّانياً ناهضاً ومتفاقماً، كسر حاجز الخوف المركّب وقد يقود إلى نهايات الدولة القطرية العربية، بالمعنى الشعبي لا الرسمي، في اتجاه تشكيل تكتلات عربية جماهيرية ممتدة، خارج الحدود الاستعمارية لكلّ قطر عربي، مع توظيفات لوسائل ميديا الحديثة والشبكة العنكبوتية كآليات تنسيق تخترق الحواجز والحدود الجغرافية الطبيعية والمصطنعة. وقطعاً هذا بخلاف يرجوه الأميركي والصهيوني من تحريك الشوارع العربية، ويُنظر إليه على أنه أضرار جانبية وأكلاف سلبية للتحريك من الزاوية الأميركية والغربية.

كي لا نوصف بأنّنا ثملون بالتفاؤل أو التشاؤل أو التشاؤم فإنّ أقلّ الممكن هون تأسيس الدولة القطرية العربية على أساس عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، وفقاً للعبة سياسية – ديمقراطية جديدة، الجميع فيها شركاء في صناعة القرار وتنفيذه، تؤسس لاحقاً لحالات جديدة من العلاقات بين العرب، خاصةً أنّ معظم أنظمة الحكم العربية لم تكتفِ فقط بوضع عقود حكمها دساتيرها مع شعوبها في الثلاّجات، بل عبثت بها عبر عمليات انتقائية أدّت إلى تشوّهات موضوعية في مضامين العقود الاجتماعية، مبقية على بعض النصوص الدستورية التي أتاحت لها القيام بما هو في صميم عملها الدستوري بينما هو بعيد وغريب عن الأصل الدستوري، تماماً كالفرق بين الثرى على الأرض والثريا في السماء الدنيا.

معظم تقديرات الخبراء والمراقبين، وعلى اختلاف مستوياتهم ومشاربهم الفكرية، تذهب في اتجاه عودة عنيفة وامتداد للاحتجاجات الشعبوية في العالم العربي، لتشمل دول الخليج كلّها وباقي دول المغرب العربي هل يكون فشل الكيان الصهيوني وبعض حلفائه من عرب وغرب في إنهاء مجتمع المقاومة في الداخل الفلسطيني المحتل شرارة ذلك؟ وساحات سياسية أخرى ضعيفة وقوية وقد تصل رياح التغيير الشعبية إلى مناطق خارج العالم العربي مثل الباكستان، بأشكال أكثر حدة، والهند أيضاً.

في حين أنّ بعض الساحات السياسية العربية، بنوعيها الضعيف والقوي، تشهد في هذه الآونة المشحونة، خطوات وقائية استباقية للحفاظ على الاستقرار، عبر تغييرات في قطاعات حكمها، مع التعامل شبه المقنع مع حراكات شارعها الأهلي وقواها السياسية المعارضة والمستقلة.

تقول المعلومات إنّ ثمة طواقم سياسية واستخبارية، أميركية وبريطانية، أعادت تفاعلها وتموضوعاتها وإحياء أدواتها في بعض الدول والساحات العربية المرشحة للعدوى التونسية والمصرية والليبية، واستنساخ نموذج تثوير الشارع السوري ضد نسقه السياسي، من خلال البروباغندا الإعلامية، وخلق «الدواعش» في العراق وغيره ومدّها إلى الداخل الأردني ثم محاربتها. وبعبارة أخرى، خلق الإرهاب وتسليحه ثم الانخراط في محاربته وتسليح الحكومات لمحاربته الجانب الضدّ ، وتعقد جلسات عصف ذهني مع القيادات الحاكمة للوصول إلى صيغ جديدة لأنظمة الحكم التي ما زالت قائمة، وتركز هذه الطواقم السياسية والاستخبارية، على جيوش هذه الدول والتفاهم معها، كي لا تتغير عقيدتها العسكرية وتبقي على توجهاتها المؤيدة للترتيبات والاستراتيجيات الأميركية.

كما تتحدث تقارير أجهزة الاستخبارات في مختلف دول المعمورة والمرفوعة إلى المستويات السياسية القيادية فيها، بوضوح عن اجتياح حركة الاحتجاجات والاضطرابات مجدداً جميع الساحات العربية، عاجلاً أو آجلاً، ولن تسلم منها أي ساحة أو دولة. لكن تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية و»الإسرائيلية»، تشير إلى أنّ ما يحصل في الشارع العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، من فوضى خلاّقة هو ذو مخاضات متعددة لولادة معطيات جديدة ومختلفة، تتفق وتتساوق مع الرؤى السياسية الاستراتيجية الأميركية التي تسعى واشنطن إلى عمليات إنفاذها في العالم العربي.

لذلك، وببساطة مفرطة، تلك المسمّاة «عملية السلام» في منطقة الشرق الأوسطية انتهت، أو على الأقل تراوح مكانها عبر مشروع اتفاق الإطار المجمّد الآن أبوه الروحي مارتن أنديك المستقيل من منصبه، بمساعدة جون كيري وبإيعاز من البلدربيرغ الأميركي جنين الحكومة الأميركية فهو اتفاق لإدارة الصراع أميركياً إلى حين معرفة طبيعة ما ستنتجه هذه الثورات الشعبية في المنطقة العربية، فكان العدوان على غزّة الآن تمهيداً له لأحيائه من جديد، وبالتالي فرضه عبر إنهاء المقاومة فكراً وثقافةً وتشكيلاً وتسليحاً… هكذا يعتقد بعض الغرب وبعض النظام الرسمي العربي الموغل في الخنوع والتبعية والذلّ. وتسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى سيناريوات السيطرة والإحكام عبر العسكر العربي بوجوه مدنية، كما تستعد لبيع السلاح من مخازنها، وفتح حوار جديد مع الحركات الإسلامية، لكي تحافظ على مستويات اللهب والنيران المشتعلة، ولإعطائها الشرعية الأممية، فلا تتدهور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، من الزاوية الأميركية.

ردود الفعل القوية والمنسجمة مع رؤية الدولة في الشارع الأردني المسيّس بأطره الشعبوية والإعلامية والسياسية والحزبية والعشائرية والرافض أي تدخلات أميركية في شؤون دولته أربكت أيضاً السياسة الخارجية الأميركية التي تنظر إلى الملف الأردني كمخرجات للملف الفلسطيني، والرهان يكون على تماسك الجبهة الداخلية الأردنية ضد محاولات أميركية تمارس في الخفاء والعلن على الدولة الأردنية، وعلى الملك نفسه، للقبول ببعض مخارج مفاوضات التقريب العلنية والسريّة التي جُمّدت منذ فترة، وتعتقد واشنطن وبعض النظام الرسمي العربي أنّ نتائج العدوان البربري على غزّة ستحييها مجدداً، من جديد خاصة إذا اندلعت انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية المحتلة، حيث ستشكل الأخيرة عامل ضغط كبيراً على المطبخ السياسي والأمني الأردني للقبول في النهاية بما هو مطروح، فهل ينجح السفلة من غرب وأميركيين وبعض نظام رسمي عربي في تصفية الموضوع الفلسطيني نتيجة العدوان على غزّة إن نجح في مساراته المرسومة على حساب الساحة الأردنية؟!

بعبارة أخرى، سوف تسعى أميركا، إلى خلق حالات من التوتر بمستويات عالية الشدّة بين الدول القطرية العربية التي ستشكل مراكز قياداتها بشكل آخر يختلف عن التنميطات السابقة، ثم تعمل على إثارة الخلافات عبر المكائد والفتن التي تتقنها واشنطن عبر مخابراتها، بين هذه الكيانات العربية، وتذهب بها نحو التصعيدات الأمنية والعسكرية وعمليات التعبئة السلبية، ومن شأن ذلك أن يدفعها إلى حشد القوات العسكرية والقيام بالعمليات الاستخباريّة السريّة، والعمل على ملء مخازن هذه الكيانات العربية من منظومات السلاح الأميركي لأجل تنشيط الاقتصاد الأميركي المتباطئ النمو.

تؤكد المعلومات أن الحكومة الأميركية الراهنة واللاحقة، أياً تكن، تسعى إلى أن تكون الجيوش العربية عماد النظم الحاكمة الجديدة، إنما بوجوه مدنية، بحيث تسيطر واشنطن من وراء الحجاب على تلك الأنظمة، ونتيجةً التوترات الناشئة بفعل أميركا، فانّ تلك الأنظمة الحاكمة بصيغ جديدة، سوف تسعى إلى استغلال ثروات البلاد والعباد ومواردها الأساسية، وليس إلى تطوير الاقتصاد وتحسين أوضاع الشعوب، بل إلى شراء السلاح من المخازن الأميركية، وفيها السلاح مخزّن الذي يعلوه الصدأ. وتتم هذه العملية الجهنّمية عبر المستويات العسكرية، والاستخبارية التي تحكم وتسيطر في الخفاء والمتفاهمة مع الولايات المتحدة مسبقاً.

تسعى الولايات المتحدة الأميركية، بالتنسيق مع حلف الناتو وبعض دول الاتحاد الأوروبي، إن لم يكن معظمها، يسعون وبوتيرة مستمرة، الى استخدام الأزمة كأسلوب إدارة متقدم للأزمة السياسية الرأسية والعرضية الشعبوية التي تُخرج من جحور الكبت والحرمان لتنتج أزمات أخرى في المنطقة. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى إسقاط باقي الأنظمة الجمهورية الشمولية العربية، وقد تتطور الرؤية الحالية نحو إسقاط الأنظمة الملكية في الساحات العربية الأخرى، فما يحكم علاقات واشنطن بما يحصل في المنطقة هو المصالح والمصالح فحسب.

ذر للرماد في العيون ما قاله إليوت أبرامز حول أنّ الملكية الدستورية هي نوع من الديمقراطيات، وهي رسالة إلى الملوك العرب، لإعادة إنتاج أنظمة حكمهم من جديد، وفق صيغ مقبولة وعقود اجتماعية مستحدثة، فإنتاج الأزمات في المنطقة لإسقاط الأنظمة الجمهورية الشمولية حتّى اللحظة.

تقود المعطيات والتطورات الدراماتيكية، في الشرق الأوسط ومحركات محفزاتها وميكانيزميات فعلها إلى بلورة بعد سياسي أمني مزدوج ينطوي على مرتكزين مهمين، الأول أن ثمة عمليات احتجاجية شعبوية في العديد من دول الشرق الأوسط، والثاني أن ثمة عمليات سريّة استخبارية، تقوم بها شبكات الاستخبارات الأميركية و»الإسرائيلية» والأوروبية لتوجيه نشاطات تلك الاحتجاجات والثورات الشعبية على نحو يبقي على من بقي من حلفاء واشنطن وشبكات تحالفها في المنطقة، مع إضعاف خصومها.

تسعى الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها إلى إنجاح خطّة توظيف السلطات التونسية الجديدة بعد التوافقات السياسية الأخيرة بطاقمها وشكلها الراهن، كونها قادرة على توجيهات السياسة الخارجية التونسية المرتبطة وظيفياً بباريس وواشنطن، مع ضرورة تقديم المزيد من الدعم والمساعدات لهذه السلطات الجديدة، لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الداخلية.

كما تسعى واشنطن رغم ترددها إلى تحقيق سيناريو دعم السلطات المصرية الحالية على نحو أكثر التزاماً ببنود اتفاقية كامب ديفيد لعام 1979، وبالتعاون المصري الأميركي «الإسرائيلي» في الشؤون السياسية والدبلوماسية الشرق الأوسطية، وفي هذا رسالة إلى الفدرالية الروسية.

من ناحية أخرى، تريد أميركا حماية الأنظمة الخليجية والأخرى، الحليفة لها من الانهيار، والعمل على تطبيق هدفها من خلال حضّ تلك الدول على إجراء الإصلاحات الممكنة التي من شأنها إرضاء الجماهير، وتنفيس واحتواء احتقاناتهم، من دون أن تقدم تلك الأنظمة، تنازلات حقيقية تضعفها، وفي الوقت نفسه عدم الإضرار بالمصالح والمجالات الحيوية لأميركا، والمتمثلة في السيطرة على الموارد وحماية أمن الكيان الصهيوني في المنطقة.

محام، عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية

www.roussanlegal.0pi.com

mohd ahamd2003 yahoo.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى