أسامة العيسة: الأدب جبهة قويّة في الصراع والرواية هي الأقدر على استيعاب تراجيديا المكان

كتب عمّار المأمون: يطرح أسامة العيسة التساؤلات أكثر من تقديم الأجوبة، في قلق ينتابه أثناء الكتابة سعياً إلى تحديد العلاقة مع الأشياء والشخوص. هو من مواليد بيت لحم سنة 1963، حائز الجائزة العربية للإبداع الثقافي عام 2013. صدر له «المسكوبية» و«مجانين بيت لحم».

حول علاقته بالكتابة، كونه يكتب من الداخل الفلسطيني مقارنة بالذين يكتبون من الخارج، يقول أسامة العيسة: «قبل اتفاق أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية، كنا نتطلع نحن كُتّاب الأرض المحتلة – بحسب التسمية الشائعة آنذاك، والتي قلّ استخدامها الآن رغم أن الأرض بقيت محتلة- إلى ما يكتبه الكُتّاب الفلسطينيون والعرب خارج الوطن، بكثير من الشغف والانتظار. فكثير منهم أصبحوا كُتّابا مكرسين، على الصعيد العربي. بينما كنا نحن في الأرض المحتلة نعاني بشدّة حصاراً ثقافياً خانقاً، لكن عندما يصلنا أيّ كتاب من الخارج، نتداوله في ما بيننا بشوق وحميمية».

يؤكد العيسة أن بعض الكتاب في الداخل الفلسطيني كانوا يشعرون بضعف أدواتهم الفنية، مقارنة بما حققه الآخرون خارج الوطن، نظراً إلى انفتاحهم على الفضاءين العربي والعالمي واحتكاكهم بالكتّاب العالميين والعرب، من خلال المؤتمرات وغيرها. إضافة إلى أن كثراً منهم عملوا في مؤسسات منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية المختلفة. ويشير الروائي إلى أنه بعد اتفاق أوسلو حدث تحوّل غريب، فالذين كانوا ينتظرون أعمالهم بشوق ويتداولونها كأنها منشورات سرية، والذين رفعوا شعار «بالدم نكتب لفلسطين»، عادوا ليكونوا جزءاً من واقع يناقض جذرياً كل ما كتبوا له وعنه، وليشكلوا جزءاً من بيروقراطية السلطة الفلسطينية. وتوقف كثير منهم عن الإبداع، واحتسبوا على فساد المؤسسة الثقافية والسياسية التي ظهرت بشكل بشع لا يناسب البتة ظروف شعب يعيش مرحلة تحرّر وطني.

يعتقد الكاتب أن الاختلافات على الصعيد الفلسطيني بين أدب الداخل والخارج انتهت، فالنظرة إلى الأدب الآن، تحكمها في رأيه، معايير مختلفة، تتعلق بما يُقدّم وكيف يُقدّم. أما هو فلا يكرر عملاً مرتين، ففي كل عمل هناك الجديد حتى على مستوى الشكل، وهذا ما يجده مبرراً لاستمراره في الكتابة.

حول علاقته بالمدن الفلسطينية، وهو كتب عن القدس وبيت لحم، واختياره شكل الرواية جنس كتاباته، يوضح العيسة أنه ابن مجموعة من المدن في الهضبة الفلسطينية الوسطى التي تسمى سياسياً بالضفة الغربية أي القدس وبيت لحم ورام الله وأريحا والخليل ونابلس. ورغم قرب هذه المدن من بعضها نسبياً، إلاّ أن تنوعها هو أحد أسباب شغفه الذي لا يتوقف حيالها. فهذه المدن شكلت ولا تزال وجوده الفيزيائي، لكنه يعتبر أن هذا الوجود مهدد ويتغير باستمرار، ليس بفعل العمران والتطوّر البشري، إنما بسبب التغيرات الدرامية التي تعصف بالمكان والتي لم تحدث في فلسطين منذ ألفي عام على الأقل. فالاستيطان «الإسرائيلي» ليس عبارة عن كتل إسمنتية وشكل من أشكال الاستعمار فحسب، بل إلى الأبد المكان بشكل قسري.

يؤكد قائلاً: «فيما أنا أُحدثك الآن يحدث تغيير في الأمكنة التي ارتبطت بها. كل أسبوع، بل كل يوم، أكتشف تغييراً جديداً. مثلاً الطريق التي أسلكها خلال جولاتي في البّر الفلسطيني هذا الأسبوع قد لا أتمكن من سلكها في الأسبوع المقبل، وهذه ليست مجرّد استعارة أدبية أو مبالغة لغوية بل واقع يتغير باستمرار. أصبح لكل فلسطيني قضيته ونكبته ومأساته التي لا يشعر بها الآخرون». لذا هو لا يُريد ترجيح كفة شكل فني على آخر. لكن بالنسبة إليه، الرواية هي الأقدر على استيعاب دراما المكان التي تتسرّب أمام عينيه من غير أن يستطيع شيئاً. يحاول ببساطة كتابة جزء يسير من ملحمة المكان الذي يتغيّر إلى الأبد.

في روايته «المسكوبية» اختار الروائي الحديث عن السجن، ذاك الفضاء المغلق، فالمسكوبية معتقل في القدس، وأحد أسوأ مراكز التحقيق «الإسرائيلية»، ويطلق عليه الفلسطينيون صفة «المسلخ». تعرّض العيسة للاعتقال فيه ثلاث مرات في سن باكرة، وهو لا يوافق على مصطلح «فضاء مغلق» كوصف للسجن، فالسجون بالنسبة إليه زاخرة بالحياة، وهي تكثيف للتراجيديا الإنسانية في الخارج، ومرايا مقربة نرى فيها أنفسنا في فترة قياسية وقد نحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير في الحياة العادية كي ندركها، فجميع الناس أبطال وأخلاقيون، وفي السجن نتعرف إلى أنفسنا على نحو أقرب إلى الحقيقة.

يضيف قائلاً: «رواية «المسكوبية» هي أيضا رواية عن قدسي التي تنسل من بين أصابعي، عن هامشها وناسها المتنوعين، وعن عوالمها السفلية. وسط البلد في القدس البعيد عن مكان سكناي سبع دقائق بالسيارة، من يصدق أنه ممنوع عليّ، مثل مئات ألوف الفلسطينيين الوصول إليه».

ثمة خيط فاصل بين السرد الأدبي والتوثيق، لكن العيسة يقرّ في أعماله بأنّه لا يحاول التفريق كثيراً بين أساليب التعبير، فسواء في الأعمال الأدبية أو البحثية، حاول أن يخط أسلوباً خاصاً، ويؤكد أن تداخل البحث بالإبداع في أعماله الأدبية من مشاغله المستمرة، وهذا ما ينتج مغامرات أدبية لا تتوقف. يقول أسامة العيسة:«إن الثقافة لا يمكن تغييرها بالاحتجاجات أو الانقلابات، ربما يكون ذلك بأشياء أخرى لا أعرف بالتأكيد ما هي، لكن رغبتنا الدائمة في تنصيب رموز، وآباء في السياسة والأدب والمجتمع تحتاج إلى أشياء أخرى غير إعادة إنتاج الاستبداد».

ما إن يرى العيسة في التغيّرات التي تمرّ بها المنطقة العربية الآن أملاً في طرح جديد يتعلق بالقضية الفلسطينية على الجانبين السياسي والأدبي، يعتبر الروائي أن فلسطين تخضع لاحتلال كولونياليّ، يشبه في جوانب منه تجارب أخرى لشعوب ودول تمكنت من الانتصار ودحر المستعمر، لكن في جوانب أخرى منه، ومع استمرار هذا الاحتلال وتعقده، اكتسب مزايا ذاتية تخص الحالة الفلسطينية. يوضح قائلا: «ها نحن نشهد تحوّل الضحية إلى جلاد، ومناضلي الأمس يعتقلون مناضلو اليوم، وتحوّل الاحتلال «الإسرائيلي» لأرضنا إلى احتلال رخيص. أرغب في أن يشكل الأدب جبهة أخيرة وقوية في الصراع، لكن ارتهان معظم مثقفينا للسلطة والفصائل والأحزاب وجهات التمويل يجعل من ذلك عصياً. أراهن دائماً على المبادرات الذاتية لكُتّاب يعلون من شأن فعل الكتابة».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى