الشعر يثور ويقاوم أيضاً

جورج كعدي

للشعراء الحقيقيّين الكبار دور في ثورات التحرّر. نيرودا، بوشكين، ماياكوفسكي، نزار قبّاني، محمود درويش، محمد الماغوط، سميح القاسم… وآخرون كثر في أنحاء الأرض، وفي مختلف الأزمنة على مرّ العصور، قادوا وجدان الشعب والأمّة، ثوّروا الناس بالكلمة والقصيدة، حضّوا العنفوان الوطنيّ وتمرّدوا على ظلم المحتلّ.

في تاريخ ثورات التحرّر، لا يقلّ دور الشعراء الحقيقيين الكبار شأناً عن دور المقاومين الأبطال على جبهات القتال، ولا عن صمود الشعب المدنيّ وتضحياته والأثمان الغالية بل المأسويّة التي يدفعها أرواحاً وأرزاقاً، خوفاً ورعباً وانتظاراً. كأنّما الشعراء هم عقد الصلة بين المقاومين المقاتلين والشعب الصامد المتشبّث بأرضه وهوّيته وانتمائه. يحيّون بطولة هؤلاء وشهادتهم، ويعبّرون عن أوجاع الناس وفَقْدهم وأحزانهم ومآسيهم. هم، في خلاصة القول، وجدان الشعب، حاملوه والمعبّرون عنه. يحيّون من ناحية البطولة والشهادة، ويتقاسمون من ناحية ثانية مع أبناء الوطن عذاباتهم الجمّة، إنّما كذلك أفراح الانتصار والصمود وكسر هيبة العدوّ وتحطيم معنويّاته وعنجهيّته المريضة وصدّ حقده الوحشي.

بالأمس غاب أحد القلّة النادرة المتبقّة من شعراء الثورة والمقاومة في أمّتنا، الفلسطينيّ الكبير المبدع سميح القاسم الذي هزّ صوته مشاعر الملايين، بالغاً أسماعهم ووجدانهم في الفترة الأخيرة عبر شاشة «الميادين» التي لم تتوقّف عن بثّ قصيدته البليغة المؤثّرة «تقدّموا» التي ترافقها صور من وحشيّة الصهيونيّ السفّاح، قاتل الأطفال والمدنيّين، والعاجز مع ذلك عن زعزعة تعلّق الفلسطينيّ بأرضه وجذوره، أو إضعاف إيمانه بقضيّته، مهما تمادى في قتله وإجرامه وتشريده… إنها الحماسة الشعرية «المعكوسة» إذا جاز التعبير، فقصيدة القاسم المشهورة هذه، شديدة التأثير، تخاطب العدوّ أنْ أفعل كذا وكذا فلن تنال من صمود الشعب الفلسطيني المقاوم وعزيمته ولن تتمكن من كسر شوكته، متوجّهاً إلى جنوده: «تقدّموا/ تقدّموا/ كلّ سماء فوقكم جهنّم/ وكلّ أرض جهنّم/ تقدّموا/ يموت منّا الطفل والشيخ/ ولا يستسلم/ وتسقط الأم على أبنائها القتلى/ ولا تستسلم/ تقدّموا/ تقدّموا/ بناقلات جندكم/ وراجمات حقدكم/ وهدّدوا/ وشرّدوا/ ويتّموا/ وهدّموا/ لن تكسروا أعماقنا/ لن تهزموا أشواقنا/ نحن القضاء المبرم/ تقدّموا/ تقدّموا…». قمّة في الشعر الثوريّ المقاوم، المفعم ألماً وإيماناً في آن واحد، حزناً ورجاء، رقّة وصلابةً، صبراً وثباتاً… لأنّه شعر طالع من صدق ومعاناة وتقاسم لآلام الناس وأحزان الوطن. لذا سميح القاسم شاعر ثوريّ كبير، مقاوم، متمرّد، غاضب، لم يكتب الشعر ترفاً فكريّاً منفصلاً عن الواقع، ولم يجعل قضيّته الشعريّة غير قضيّة وطنه فلسطين الذي لا تتقدّمه قضية. ذاك ما ميّزه وميّز أقرانه الكبار مثل محمود درويش وتوفيق زيّاد في الشعر، وغسان كنفاني في الأدب والفكر والنقد… هم أيقونات فلسطين، لأنّ فلسطين شعباً وأرضاً وهوية وانتماء لطالما كانت لهم الأيقونة المعلّقة على صدورهم، وفي القلب والعقل والوجدان معاً.

أيضاً لا يقلّ شعراء كبار من وزن سميح القاسم ومحمود درويش، أو أدباء من طينة المبدع الفذّ غسان كنفاني الأدب والفكر يثوران كذلك أسوة بالشعر ، خطراً على عدوّ مثل «الإسرائيليّ»، والبرهان أنّ «إسرائيل» كلّها، ساسةً وأكاديميا ورأياً عاماً، انشغلت طوال عقود بظواهر استثنائية شديدة التأثير في مجرى الصراع، مثل ظاهرة محمود درويش أو سميح القاسم أو غسان كنفاني، وآخرين، فمارست حيالهم الترهيب والترغيب، أما الترهيب فبالمضايقة والنفي أو بالاعتقال والسجن، بلوغاً إلى الاغتيال غسان كنفاني مغدوراً في بيروت على أيدي «الموساد»، ولنا أن نتخيّل كم يرعب أديب ومفكر مناضل عدوّاً هشّاً تافهاً مثل «الإسرائيليّ» فيقدم على تصفية «خطره» جسدياً! .

وأمّا الترغيب ففي المحاولات الحقيرة واليائسة لاستمالة شاعر عبقريّ، عميق وجذّاب ومعشوق من ناسه ومن باقي الشعوب شرقاً وغرباً، هو محمود درويش الذي استماتت المرجعيّات الأكاديميّة ودور النشر لاستيعابه وجذبه إلى التطبيع، وإن شعراً وثقافة ولغة عبر ترجمة أعماله إلى العبريّة ، وإغوائه بتقديم محاضرات في جامعات «إسرائيليّة»، على خلفيّة الانفتاح والتبادل الثقافيّين، تمهيداً لـ»سلام» مزعوم بين محتلّ غاصب وقاتل في جانب، وصاحب حقّ وأرض وقضيّة في جانب آخر! وإن بذريعة «التلاقح» الثقافيّ والشعريّ. بيد أنّ محمود درويش كان أذكى وأشدّ دهاء من عدوّ متذاكٍ تافه يتسلّل إلى مبدعينا الكبار مثل الأفعى السامّة الغادرة، فلم يطبّع ولم يقع في الغواية، وبقي إبداعه وصوته الشعريّ يخيفان «الإسرائيليّ» ومثله إبداع سميح القاسم وصوته المتفرّد.

الشعر ثورة، الشعر مقاومة، الشعر غضب وصيحة وجدان. الشعر يهزّ، يحرّك، يحضّ، يدعم حقّاً، يساند بطولة، يشعل حماسة، يضيء أملاً، يشيع رجاء… لذا هو فعل ثوريّ مقاوم بامتياز، وشعراء فلسطين والأمّة السوريّة في طليعة حركة المقاومة وثورات التحرّر من الاستعمار ومن «إسرائيل» ومن التخلّف والرجعيّة وثقافة العُرْبة والنفط ومن أمراض التعصّب والطائفية والتطرّف والأصوليّة والجهل.

قبّاني، درويش، الماغوط، القاسم، زيّاد… ثوّار مقاومون على طريقتهم، بالكلمة الصادقة، الحارقة، الملتزمة، المثوّرة، التي إذ تلقّفها الوجدان الجمعيّ استنهضته وحرّكته وأشعلته ناراً وحماسةً… مساهمة في تحرير أوطان وهزْم أعداء واستعادة أرض وكرامة واسترداد حريّة ينبت الشعر في تربتها غرسة أبديّة لها خلود زيتونة فلسطين المقدّسة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى