أسباب الفشل العربي التي نسيتها مجلة «الإكونوميست»

د. عبد اللطيف عزب

في مقال شامل ومفصل نشر في الإكونوميست البريطانيه The tragedy of the Arabs The Economist، عرضت المجله تحليلاً للأسباب التي أدت بالعالم العربي إلى الحالة الكئيبة التي هو فيها في أيامنا. في هذا المقال، سأحاول عرض أسباب أخرى، مهمة جدا في نظري، لهذا الفشل، والتي غابت عن أعين الأكونوميست، وسأحاول توضيح بعض العوامل التي عُرضت بشكل جزئي أو خاطئ.

لا أعتقد أنّ هناك عربيا واحدا يفكر منطقياً وباستقامه لا يعترف بفشل العالم العربي. في الواقع هذا ليس فشلاً بل كارثة تاريخية، ستتعب الكثير من الأجيال القادمة لإصلاح الدمار الذي خلفته. وكما هو الحال في جميع منظومات حكم الظلام والظلم على مدى التاريخ، يشجع قادة الدول العربية أسوأ نوع من الكبت النفسي عند شعوبهم: جميع هؤلاء الزعماء يتفاخرون بازدهار بلادهم.

لهذا الفشل العديد من الأسباب، حيث أن غالبيتها قد عرضت بصورة دقيقة ومقنعة في الإكونوميست. ولكن مؤلفي المقال لا يكتفون بتهميش دور الاستعمار الغربي في هذا الفشل، بل ويعرضون هذا الدور كنظرية فاشلة. هذا هو الموضوع بالضبط: هذه النظرية صحيحة جدا. الدمار الذي خلفه الاستعمار الغربي هو أحد الأسباب الرئيسية للوضع الحالي.

كيف كان حال بغداد، دمشق والقاهرة، حين كانت هذه المدن تتنافس على لقب المدينة الرائدة في العالم، على حدّ تعبير الإكونوميست؟ ما هي مميّزات التجديدات التي ماشاها الإسلام يداً بيد؟ المجلة لا تجيب على هذه الأسئلة. ولكن الجواب مذهل ببساطته: الإسلام آنذاك، وبالأحرى المسلمين آنذاك، لم يعطوا جلّ اهتمامهم للشريعة والفقه بل تعمّقوا في الأوجه الفلسفية التي تخصّ كل البشرية للدين، أو كما وصف الحال الإمام أبو حامد الغزالي، تعمّق المسلمون في ماهية الدين أي العقيدة.

بما أنّ الدين والحضارة العربية قد ترعرعت في مجتمع قبلي، والذي كان ممزقاً بحروب داخلية، مع بعض الوميض الفكري هنا وهناك خاصة الشعر ، كانت الأمة متعطشة للتجديد، للقاء الحضارات الأخرى وللعلم. الدليل على ذلك أنّ علماء المسلمين نهلوا حكمة اليونان، الفرس والهند. في تصوّري، هذا مسار تاريخي تمرّ بها حتماً كلّ حضارة محاربة ومحتلة نعم، في ذلك العصر كنا نحن الاستعمار ، والتي تملك القليل جداً من الثروة العلمية والنظرة الإنسانية الشمولية، عندما تلتقي بحضارات أخرى لها مثل هذه الثروة. في بداية الأمر يكون اللقاء عنيفاً دامياً، ولكنه بعد ذلك يتحوّل إلى إثراء علمي – حضاري متبادل. في مثل هذه الظروف وصلت الحضاره العربية – الإسلامية الى أوج ازدهارها.

توجد بين العالم العربي قبل ألف سنة تقريباً وبين ذلك الذي بدأ في بداية القرن التاسع عشر وحتى أيامنا فروق واضحة، والتي غابت عن أعين الإكونوميست، وهي من الأسباب الجوهرية لفشل العالم العربي. أحد هذه الفروق هو التقبّل والانفتاح اللذان ميّزا الحضارة العربية في الماضي، وحتى بذل مجهود واضح لجذب «الغرباء». الأمثلة تعيي الإحصاء. من شخصيات «الغرباء» المشهورة نذكر العلامة محمد ابن موسى الخوارزمي والذي يعود نسبه إلى أوزباكستان في أيامنا ، أبا مسلم الخرساني أفعانستان وبالطبع القائد صلاح الدين الأيوبي أرمينيا .

في عصرنا الحالي، وبسبب التيارات الإسلامية المتطرفة، والتي ظهرت بعد تأسيس حركة «الإخوان المسلمين» في مصر، ليس «الأعجمي» فقط مرفوض ومستحقر، بل العربي المسلم الذي لا يتبع المذهب «الصحيح» من الإسلام. هذا التوجه يشعل الفتنة بين الشيعة والسنة، وبين الفصائل المختلفة داخل هذين المذهبين الرئيسيين. على المستوى المحلي، المثال الأوضح لهذا التوجه هو الحركة الإسلامية الشمالية. منذ تأسيس دولة إسرائيل كان الصراع القومي المدني – الحضاري للعرب مواطني هذه الدولة مشتركاً للمسلمين والمسيحيين من أبناء الشعب الفلسطيني. مفهوم النضال كان فوق ديني. ولكن الحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح أبعدت المسيحيين ورفضتهم كشريك لهذا النضال. وعلى مستوى العالم العربي، حماس، القاعدة و»النجم الصاعد» الدموي، تنظيم الدوله الإسلامية داعش ، هي جميعاً أشكال متنوعة لنفس عدم الانفتاح ورفض كلّ من هو ليس عربياً مسلماً أو من هو ليس على المذهب «الصحيح» من الإسلام.

مع بداية ثورات «الربيع العربي»، عجّت شوارع وميادين المدن بالشباب المخلّين بالأنظمة القديمة، جيل الفيسبوك والهواتف الذكية، كما وصفتهم الإكونومسيت. ولكن لو نظرنا بعين ثاقبة إلى نماذج استعمال التكنولوجيا عند العرب، سنكتشف السبب الأهمّ لهذا الفشل الذريع. نحن، العرب، أبناء شعب مستهلك، والذي لا ينتج شيئاً. الدول العربية لم تسمع بعد عن التصنيع وعن التقنيات العالية High-Technology . فهي تشتري وتشتري، ولا سيما دول الخليج، ولكن في اللحظة الحاسمة، العرب لا يعرفون كيف ينتجون أيّ شيء. لذا فهم يعتمدون كلياً على الغرب.

هذا هو برأيي السبب الرئيسي لهزيمة العراق بقيادة صدام حسين. هذه الدولة التي كانت غنية وقوية عند بداية حربها مع الولايات المتحدة الأميركية، منذ لحظة فرض الحظر على الأسلحة، كل قطعة سلاح فيها خلل، تتحوّل إلى خردة لا استعمال لها. الغنى الخيالي لدول الخليج هو غنى موقت وغير ثابت، والأهمّ من ذلك، هو غنى هش. ليبيا كانت دولة غنية جداً. كانت. أيّ تطوّر علمي في مجال الطاقة المتجددة، ولا أشك أنّ هذا التطوّر قادم وليس ببعيد، سيسبّب انهيار دول النفط. السائل الذي يشتري الهدوء في الممالك، على حدّ تعبير الإكونومسيت، لن يستطيع فعل ذلك لمدة طويلة من الزمن.

ومن المظاهر الأخرى التي تميّز المجتمعات الغنية الغير منتجه هو غياب شبه كامل لمميّزين واضحين للمجتمعات العصرية. الأول هو الطموح للاستثمار في البحث العلمي. في سنة 2000 حاز الأستاذ المصري أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء بسبب أبحاثه الطلائعية والمتميّزة، ولكنه نال هذه الجائزة كباحث في جامعة أمريكية. في الحفل الذي أقامه رئيس مصر آنذاك حسني مبارك على شرف الأستاذ زويل، طلب الرئيس منه العودة إلى بلاده وتجنيد خبرته لتطوير البحث العلمي فيها. في ذلك الحين سأل الأستاذ زويل الرئيس مبارك بدون خجل أو وجل: ما هي موازنة البحث العلمي في مصر؟ ما هي موازنة البحث العلمي في العالم العربي قاطبة مقارنة مع أوروبا، آخذين بعين الاعتبار أنّ التعداد السكاني متشابه في الحالتين؟

من الواضح أنّ السؤال المفهوم ضمناً لم يُسأل حذار من ذكر إسرائيل : ما هي موازنة الأبحاث في العالم العربي كله مقابل «إسرائيل»؟ لتوضيح الإجابة سأستعين بالأرقام الموجودة في مخازن معلومات البنك الدولي حول موازنات البحث والتطوير R D ، كما تشير المعطيات للسنوات 2009 ـ 2013: مقالبل موازنة البحث والتطوير في «إسرائيل» والتي تشكل 4.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي GDP ، وموازنة البحث والتطوير في الاتحاد الأوروبي والتي تصل إلى 3.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، معدل موازنة البحث والتطوير في الدول العربية أقلّ من 0.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي!

العامل الثاني الذي يميّز الشعوب الراقية هو التبرّع للجماعة، للعلم وللمجتمع عامة. كلّ من درس في إحدى جامعات «إسرائيل» يعلم أنّ كلّ مبنى، مختبر أو مكتبة قد أقيمت بتمويل كامل أو جزئي من تبرّعات يهود أغنياء سائر دول العالم. كبار الأغنياء في العالم يتبرّعون بمليارات الدولارات كل سنة لصالح البحث العلمي، التعليم ورفاهية مجتمعاتهم والمجتمعات الأخرى. هذا العطاء مفقود تماماً من العالم العربي. في هذا المجال، فشل المسلمون فشلاً تاماً.

الزكاة والصدقة من أركان ودعائم الإسلام. في عصرنا نرى نوعين من التبرّعات. الأول، شحيح جداً من ناحية الكمّ ويتمثل بتقديم الوجبات للمحتاجين، أما الثاني، فيصل إلى مليارات كثيرة من الدولارات، ومن ضمنه يُشترى السلاح الذي يشعل الحروب، خاصة بين العرب أنفسهم سورية ، ولتمويل عمليات إرهابية على المستوى العالمي القاعدة . قادة العالم العربي يعملون حثيثاً لتعظيم ثرواتهم، والتي تصل في بعض الحالات إلى مبالغ خرافية معمر القذافي، حسني مبارك، زين العابدين بن علي وبالطبع قادة دول الخليج . الأثرياء في رام الله ونابلس لم يصلوا إلى هذه المستويات من الثروة، ولكنهم لم يتوقفوا قط عن محاولاتهم لذلك، حتى بطرق الاحتيال. السباقون في هذا المجال كانوا بعض أولئك «المناضلين»، الذين عادوا إلى فلسطين من الشتات. هؤلاء، بدلاً من استعمال تبرّعات الدول المانحة للتخفيف من أعباء شعبهم، سلبوا أموال اللاجئين وتحوّلوا خلال فترة وجيزة من لاجئين لا يملكون شيئاً إلى أغنياء جداً بالمعايير الفلسطينية. هذا هو أحد الأسباب الرئيسية لفشل الانتفاضات الفلسطينية، والذي تتجاهله المجلة.

السبب الثاني في أهميته من ناحية الوضع المتدني للعالم العربي، والذي ينبع من السبب الأول وهو عدم الإنتاجية، هو الهوة الكبيرة بين التقنيات في العالم العربي وبين العقليات. جيل الفايسبوك والهواتف الذكية مزوّد بآخر الصيحات التقنية. في الواقع، على مستوى العالم العربي، الإدمان على الهواتف الذكية وبرامجها يصل ذروته السيئة في دول الخليج، وعلى المستوى المحلي في المجتمع البدوي في جنوب أراضي 48. في هاتين الحالتين خاصة وفي العالم العربي عامة، تبيّن بأنّ المسلمين قد فشلوا كلياً في الوصول إلى أحد الأهداف الرئيسية للإسلام: محو أي هوية عشائرية، عدا الإسلام نفسه.

منذ بداية الدعوة الإسلامية كان محو الهويات السابقة له هدفاً لا يقبل النقاش أو التأويل. في الواقع، المبنى العشائري – العائلي بقي أحد مباني المجتمع الأكثر قوة في العالم العربي. «الربيع العربي» كشف هذا المبنى بكلّ قوته ووحشيته لا سيما في ليبيا، العراق وسورية. يكفي أن نقرأ ردود متصفحي مواقع الإنترنت في العالم العربي عامة وفي بلادنا خاصة، كي نفهم أنّ التبعية العشائرية – العائلية أقوى من أي هوية أخرى.

عالمنا، الذي كان من المفروض أن يكون منفتحاً، الإنسان، الذي كان من المفترض أن يتحوّل إلى مواطن كما في كلّ العالم، كل هذا تعدّى العقلية العربية العشائرية – القبلية، ضيقة الرؤيا وضيقة الآفاق. أضف إلى ذلك، العربي الذي يعشق التقنيات الحديثة لا يعرف كيف يستغل فوائد هذه التقنيات إلا لأهداف التسلية. العالم العربي غارق في مستنقع الفضائيات، التي تبث المسلسلات، موسيقى تعيب الموسيقى، وبشكل عام، كلّ ما يمكن يصرف انتباه الشعوب عن حالتها المزرية. أصبح الوضع على شاكلة «الخبز والتسلية» كما كان في عصر الرومان ، حيث أنّ التركيز أغلبه على التسلية أكثر من الخبز. المبدأ هو: لا تفكروا. الإنسان المفكر هو العدو الأول لأنظمة الظلم والظلام.

عدم الفصل بين الدين والدولة هو سبب مهمّ إضافي للفشل، والمقال في مجلة الإكونوميست يتعرّض ويحلّل ذلك بوضوح. ولكن المقال لا يوضح أنّ الإسلام خاصة وجميع الأديان عامة، ترفض مثل هذا الفصل. النتائج الحتمية لفصل كهذا تتمثل في الانفتاح الاجتماعي، ارتفاع مكانة المرأة وإضعاف الزعامة التقليدية. كلّ هذه النتائج هي أعداء شرسة لأنظمة الظلم والظلام في العالم العربي، عدا لبنان الذي يتمتع بنوع من التقدم، وسورية التي يتمتع سكانها بالحرية الدينية.

مع مرور السنين نشأ تحالف طبيعي بين الأنظمة العربية ورجال الدين، والذي استغل أحيانا بشكل هزلي – كارثي. رجال الإفتاء مستعبدين غالباً بمحض إرادتهم طمعاً بالمال للحكام، وفتاواهم مطابقة لعبوديتهم. في بعض الحالات والمفاهيم تصل الأمور إلى حالات العبث، والبارزة منها، أننا الأمة الوحيدة في العالم التي لا تعرف تواريخ أعيادها بالدقة، متى يحلّ رأس سنتها، ومتى يبدأ وينتهي شهر صيامها. كلّ ذلك يحدّد في المساء الذي يسبق كلّ مناسبة، حيث يحدّده «علماء» الدين، الذين تفصلهم السنين الضوئية عن الحكمة.

الإسلام المعاصر لا يماشي الغزالي بل يمشي مع حسن البنا مؤسس حركة «الإخوان المسلمين»، ومع «بوكو حرام» و»داعش». كلّ هؤلاء يريدون العودة إلى «السلف» وإنْ لم يطلقوا على أنفسهم اسم السلفية بشكل واضح. في تصوّرهم جميعاً، نصف المجتمع يجب أن يكون مشلولاً: النساء. «الحرام» هو مفتاح فهمهم للدين.

خلافاً للادّعاء الذي تورده الإكونوميست، الإسلام في شكله الحالي لا يضمّ التحديث، وعليه أن يمرّ بعمليات فهم معاصرة كي يصبح كذلك. ما دمنا نعمل بالقاعدة التي تقول إنّ كلّ شيء موجود في الإسلام، لن تتحسّن حالتنا، بل هناك احتمال إحصائي أن تتراجع. المعيار الذي تستعمله الإكونوميست للتحديث هو استعمال موقع التويتر Twitter . هذا في نظري معيار أعوج، لانه يمثل استعمالاً محدوداً جدا للتقنيات الحديثة، والذي لا يؤثر على هذه التقنيات وبالطبع لا يُنتج التقنيات. أما بالنسبة للادّعاء أنّ نسبة العرب التي تجيد القراءة والكتابة قد تضاعفت ثلاث مرات في الجيلين الأخيرين، فإنني لا أرى علاقة سببية بين هذه الحقيقة وبين الإسلام، والأصحّ برأيي هو أنّ هذا تغيير يحدث في العالم أجمع.

المجله تختتم مقالها بنصيحة للعرب ترشدهم كيف يخرجون من فشلهم: على السنة الغير متديّنين، وهم أغلبية في العالم العربي، أن يرفعوا صوتهم». حقاً؟ ولمَ ليس العرب جميعاً؟ نصيحتي أبسط من ذلك بكثير: يا عرب، استغلوا ثروتكم لتطوير عقولكم، جميعكم، بدون فرق العرق، الدين، والأهمّ من الكلّ، الجنس. كانت أمم كثيرة، بما فيها الأمة العربية، في حالات انحطاط تاريخية. يمكن الخروج منها. إذا صدقت النية وصحت العزيمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى