لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة

جمال العفلق

كم هو جاهل وغبيّ ذلك المصدّق أنّ أميركا والصهيونية تستطيعان العيش بسلام؟ وكم هو جاهل وغبيّ ذلك الذي لم يتوقّف عن التسويق لما سمّي بالسلام الدائم والشامل؟ وكم هو جاهل ذلك الذي صدّق أنّ عصابات الصهيونية ترغب بالسلام أو تسعى إليه.

منذ مؤتمر مدريد وبداية عملية السلام التي فرضتها أصلاً التغيّرات الدولية والإقليمية والعربية، تفرّدت «إسرائيل» ببعض العرب الذين وقّعوا معها اتفاقية سلام كما يحبّون هم أن يسمّوها، فالأردن وقّع اتفاقية «وادي عربة»، والفلسطينيون وقّعوا اتفاقية «أوسلو».

وعلى رغم أنّ الاتفاقيات مجرّد حبرٍ على ورق عندما تخصّ الطرف العربي، بينما هي واقع فرضتة أميركا وتمسّكت به عندما يخصّ المستوطينين. إلّا أنّ العرب تمسّكوا بهذه الاتفاقيات، واعتبروا أنّها جزء من بداية حقيقية لعملية سلام شاملة. توّج العرب قرارهم هذا بمبادرة السلام التي ما زالت مفتوحة حتى اليوم، على رغم أنّ «إسرائيل» لم تفكّر بها ولم تتطلّع إليها، وفضّتها لحظة الإعلان عنها. والواضح أنّ طرح المبادرة العربية كان عملية تخدير للشعوب العربية من أجل إعطاء «إسرائيل» وقطعانها الفرصة الكافية لتمكين الاستطيان وفرض الخرائط التي تناسبها.

وسجّل التاريخ الحديث لكلّ من سورية ولبنان رفض هذا الإذعان، والتمسّك بمبدأ المقاومة حتى التحرير. وعلى رغم كلّ ما عانى منه السوريون واللبنانيون من حصار اقتصاديّ وسياسيّ، ودخولهم في لعبة عضّ الأصابع وتقديم الإغراءات من أجل أن يتنازلوا عن فكر المقاومة ويدخلوا في لعبة اسمها السلام، إلّا أنّ المقاومة في لبنان وفي دمشق وفلسطين أعلنت على الدوام أنّ «إسرائيل» ليست الطرف الذي يمكن أن يكون شريك سلام. وأنّ الصهيونية تبحث عن مستسلمين لها لا عمّن يوقع معها اتفاق سلام.

فبعد ربع قرن على مؤتمر مدريد الذي عُقد في مطلع التسعينات من القرن الماضي، استطاعت المقاومة في لبنان تحرير الجنوب وإعلانه أرضاً عربية محرّرة بقوّة السلاح وتحت ضربات المقاومة، لا بموجـب ورقة سلام مفروضـة.

وفرضت المقاومة معادلة القوة على العالم، كما فرضت أنّ المقاومة ومحاربة الاستعمار حقّان لا تفريط فيهما أو مساومة عليهما. على رغم أنّ الطرف الآخر كانت حربه في كلّ الاتجاهات، خصوصاً الإعلام، فانبرى الإعلام على تقديم أسطوانتة المشروخة عن السلام وعن التوازنات. لا بل غرق أكثر من ذلك في استبدال اسم فلسطين على الخريطة وتسميتها غزّة والقطاع. واستقدم كلّ الذين يمكن شراؤهم بالمال والباحثين عن الشهرة تحت مسميات: مفكرين أو صحافيين أو محللين، لترسيخ فكرة أنّ «إسرائيل» لا تقهَر، وأنّ السلام خيار استراتيجي يجب أن يقبل به العرب.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل طاول القيادات العربية التي وصفت صدّ عدوان «إسرائيل» على لبنان عام 2006 من قبل المقاومة بالمغامرة غير المحسوبة. لكنّ ردّ المقاومة لم يتأخر كثيراً، فكانت حرب الأيام الثلاثة والثلاثين تضع أوزارها بعد هزيمة قطعان الاستيطان ومحور الاعتدال العربي.

واليوم، فلسطين أعادت الدرس من جديد على مسمع ما يسمّى بمحور الاعتدال، فكانت حرب الأيام الخمسين صورةً من أروع صور البطولة وصدّ هذا العدوان الذي انقضّ على الشعب الفلسطيني، والذي اعتقد المخطّطون له أنهم سينزعون سلاح المقاومة ويفرضون شروطهم.

ولكن واقع الحال أنّ المقاومة انتزعت شرعيتها منهم ومن مموّليهم، وفرضت قواعدها على الأرض، وكشفت من جديد مدى ترهّل ما يسمّى «جيش الدفاع الصهيوني» وضعفه، الذي تحوّل إلى بنك أهداف لا حول له ولا قوّة. وما تدمير الأبنية وقتل المدنيين وارتكاب المجازر وما اعتادت «إسرائيل» على اقترافه في أيّ حرب، إلّا دليل على هزيمتها وضعف إمكانيتها في مواجهة المقاومة.

يبقى المؤلم في الأمر أنّ الصهاينة يعترفون بهزيمتهم، ومحور الاعتدال يسمّي هذه الهزيمة انتصاراً؟

واليوم، كما التاريخ يسجّل دائماً، ألّا صوت يعلو فوق صوت المقاومة التي ستستمر، وهي الخيار الوحيد لشعوب المنطقة حتى تحرير الشبر المحتل الأخير من الأرض العربية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى