رمضان عبدالله

ناصر قنديل

– منذ أن تعرفت بالشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، القيادي المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي قبل أكثر من خمس وعشرين سنة، ولدي تجاه الحركة مشاعر مختلطة بين السياسة والعاطفة، تشبه تلك التي ربطتني بمقاومي حزب الله الذين عرفتهم عبر صداقة عمر جمعتني بالقائد الشهيد الحاج عماد مغنية، منذ كان في بداياته المبكرة قبل أكثر خمس وثلاثين سنة، والمشترك بينهما ليس فقط التدين الهادئ الأقرب لسلوك صوفية مستترة بلا فقه صوفي، ولا التواضع والأخلاق العالية وحسب، بل التنسك لخيار لا رجعة فيه نحو فلسطين، يبني من اللاشيء مشروعاً عملاقاً، ويثق بالقدرة على بلوغ الأهداف وتحقيق النصر.

– لم يستند الحاج عماد في البدايات إلى إمام أو مرجع في تجميع المقاومين، حتى علاقته بإيران كانت لاحقة لخياره المقاوم، كذلك كان الشقاقي، ولا كان أي منهما فقيهاً له مهابة ولا متمولاً له مكانة، ولا زعيماً محلياً في ميليشيا لبنانية أو فلسطينية، كل منهما لم يكن يوحي لمحدثه أنه ذو شأن يستحق منحه وقت التحدث عن مشروع بحجم ما كان يدور في رأس كل منهما، كانا يدأبان على اختيار شركاء الخيار بعناية رجلاً برجل، حتى المساجد التي يرتادانها ليست منابر لهم، ولا مكاناً لتجميع المريدين، بل مجرد مكان للعبادة يقصدانها كأفراد.

– تأسيس هادئ وانتقائي لنخبة تختبر جديتها بالنضال والتضحيات، وتصقل ثقافتها بجلسات تجمع الديني بالسياسي، وصلة منفتحة بالحركات المناضلة ورجالات الفكر السياسي وفقهاء الدين، وسعي مغامر لتجميع الإمكانات للعمليات الأولى، بما لكل منهما من صداقات بناها بهدوء أيضاً مع من يملكون قدرة الوصول للسلاح والذخيرة.

– العشر سنوات التي مرت على بداية كل منهما، كانت كافية لتثمر حركة جهادية ثابتة الجذور، سرعان ما صارت حركة الحاج عماد أحد مكونات الشراكة في تأسيس حزب الله مع مجموعات أخرى نمت بطرق مختلفة، بين الحوزات والتبليغ الديني وجماعات شباب المساجد وخارجين من حركة أمل أو من أحزاب لبنانية وفلسطينية وإتحاد الطلبة المسلمين ومريدي المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، أو من أثرت فيهم الثورة الإيرانية وشخصية وعبقرية قائدها بفهم جديد للدين والسياسة وفلسطين، ليتشكل حزب المقاومة الأول ويلمع الحاج عماد كرمز لمقاومته وانتصاراتها قبل أن يبلغ الشهادة التي كان ينتظرها، بينما ارتقى الدكتور فتحي لشهادته مبكراً تاركاً عبئاً ثقيلاً على من سيخلفه للمهمة وهي لا تزال في البدايات.

– وقع الاختيار المبكر للدكتور الشقاقي على الدكتور رمضان عبدالله شلح لقيادة المهمة معه قبل استشهاده، فكانت مسؤوليته عن المسيرة لا تحتاج تدبيراً ولا نقاشاً، والعبء ثقيل، لكنني منذ تعرفت إلى الدكتور شلح قبل سنوات طوال، وأنا أكتشف فيه خليطاً من الدكتور الشقاقي والحاج عماد، ووفاء لكل منهما لا أصدق من الدموع التي تترقرق عند ذكرهما في تبليغ رسالة الوفاء، وصدق سريرة مع كل من يشعر لديه الصدق نحو فلسطين، أياً كانت خلفيته أو مكانته أو قدراته، وتواضع القادة الكبار، يحرص على اللقاء بكل من يصل لمسامعه أنه وافد من الأرض المحتلة، لتسقّط أخبار الوطن من مواطنيه وليس فقط من أعضاء الحركة الآتين للقياه بالمئات قبيل توجههم المعقد لدورات التدريب.

– الدكتور رمضان من صنف القادة الذين لا يتوقفون عن التعلم، في فنون التفاوض والتحليل والخطابة والرماية والتنظيم، ففلسطين تحتاج قادة يملكون ويبرعون في كل مواهب القيادة، لا يرتفع صوته في نقاش، حتى أنه روى لي مرة عن نقاش صاخب دار في أحد الاجتماعات بينه وبين آخرين، لأكتشف أن الدكتور رمضان وقف ليعتذر على الانفعال فيفاجئ أن الطرف الآخر لم ينتبه أن ثمة انفعالاً، ومعلوم كم هي في تجارب الأحزاب والمنظمات حالات الصراخ، التي لم يعرفها هذا المستمع الجيد والمتحدث اللبق، والجدي دائماً والممسك بقلم وورقة في كل جلسة لتلخيص ما يتفق عليه في اختتامها.

– يخجل الدكتور رمضان عند ذكره في سياق تمجيد أو مديح، ويخجل أكثر عند تشبيه خجله المتواضع بقائد المقاومة السيد حسن نصرالله، لكنه يفتخر برفاقه وإخوته القياديين الذين أفرزتهم حركة الجهاد، وبنجاحها بالنمو الهادئ إلى جانب حركة حماس من دون أن تتورط بتنافس مريض معها أو تستثير فيها غيرة أو حفيظة، فالمسؤولية عن نجاح المقاومة أكبر من المكاسب الفئوية، ولتقدم كل التنازلات لحماس إذا كان هذا يفيد في تدعيم مسيرة المقاومة، من تسليم مساجد إلى تنازل عن سلاح، أو تخل عن بيان مسؤولية عن عملية.

– إذا كان للحرب الأخيرة في غزة أن تكون حرب حركة ورجل، فهي بامتياز حرب حركة الجهاد والدكتور رمضان شلح، على رغم كل الهالة التي يريدها ونريدها لحركة حماس في الإنجاز وحمايته، لكن القريبين يعرفون القيادة كيف كانت تتم، والتفاوض كيف كان يتم، والوحدة الفلسطينية بين فتح وحماس كيف كانت تصان، والعلاقة بمصر وبينها وبين حماس كيف تدار، وخطوط الإمداد، والعلاقة بحزب الله ومقاوميه، وبسورية ومعسكرات التدريب ومستودعات التخزين، من دون الدخول في متاهات الأزمة، والأهم العلاقة بإيران وقيادتها والهم الدائم ليس حركة الجهاد، بل التشجيع على الوصل الإيراني مع حركتي فتح وحماس.

– معبر رفح عنوان هموم الدكتور شلح لما بعد الحرب، فهو القيمة الإستراتيجية لتغيير أحدثته الحرب، ويليه أو يوازيه تكريس مرجعية منظمة التحرير بصيغة ديمقراطية وحدوية جديدة تشبه الانتصار ونتائجه، ومثلهما تعميم مشهد غزة فلسطينياً في الضفة وأراضي العام 48، ودائماً إعادة الحياة لحلف المقاومة من دون فرز تعسفي يستقطب عداوات مجانية مع أحد.

– في زمن الفتن تبدو حركة الجهاد وقائدها بوليصة تأمين لمنع الفتنة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى