لا تستوحشوا طريق العراق الموحَّد

ثائر أحمد ابراهيم

قبيل سنوات عدة، درج استخدام مصطلح «اجتثاث البعث» بين عموم العراقيين…

شعار بات واجهة يطلّ عبرها كلّ ساع إلى استمالة جماهير دعم لعبة الانتخابات المربحة، وربما كتعبير عن سوداوية ذاكرة عنوانها الأشمل جرائم صدام حسين . ما كان لأحد آنذاك أن يعاند المزاج الشعبي الراغب بالانتقام من كلّ متورّط في ما جرى، ولم يكن أحد يبالي بتحديد أسماء المرتكبين الحقيقيّين فالشبهة في هذا حدّها كحدّ المرتكب من وجهة نظر الثائرين، ومع كلّ العصف الإعلامي الغربي الواقع على رؤوس العراقيين بات الجميع أعداءً لكلمة البعث .

إنها صورة مقيتة سببها تلميذ أمريكا وابنها الطائع لا ريب، بيد أنها صورة مناقضة لحقيقة ذلك الفكر العروبي الحالم بتوحيد الأمة.

مُؤكد أن، الإصرار على اجتثاث البعث في العراق الجريح كان سببا أصلياً للنتائج الكارثية اللاحقة، حيث انتشرت أجواء الشقاق والخلاف بين أطياف المجتمع الواحد، وأصاب الأمر القوميين العرب كما أصاب غيرهم، فتيارات الولاء والعداء للمشروع الإسلامي عامة وللإيراني المزعوم خاصة قامت على قدم وساق.

لم يكن مفاجئاً أن يُظهر القوميون العرب في ما بينهم انقساماً عاطفيا شديداً، فالعاطفة في زمن الترهّل الفكري تتحرّك بما تشتهي رياح المنافع المالية في هذا الاتجاه أو في ذاك، وتأثراً بالذاكرة الجمعية التي سقط الأغلبية في الخروج منها تحدث الكثيرون عن الدولة العربية المرجوة، وتحدثوا أكثر عن العقيدة المشتركة، لكن الغريب أنّ القلة منهم تطرّقوا للحديث عن المصلحة العليا للمواطنين العرب على اختلاف مشاربهم، والأقلّ منهم تساءل عن أهمية وحيوية وضرورة وحتمية ربط هؤلاء الأفراد في نسيج جامع واحدٍ بعيداً عن قطرية آخذة بالنمو في أغلب البلدان العربية وبعيداً عن دينية مضطربة تسبّبت كرباً وبلاءً غير خاف على أحد.

ولأنّ عدوّنا الذكي كان قد تنبّه منذ أمد لخطر الوحدة الأكيد عليه إذا ما تحقق المشروع الحلم، وفهم بأن قيام الوحدة العربية كارثة تلحق بوجوده العدواني التوسّعي، أدار عجلة حراكه لضرب وحدة الأمة وتعطيل حراك العروبيّين والمسلمين معاًُ، وكان تأخرنا أشواطاً عن إدراك ما يُحاك ضدّنا كارثة قائمة بحدّ ذاتها لم نجد حلاً لها، لكن الأمر الصادم لعقل المتابع تفاصيل الأمور هي الرؤية التي تبناها بعض العرب ضدّ الثورة الإسلامية في إيران واعتبارها خطراً قادماً من الشرق، والمريب كان بجعل التصدّي لذاك الخطر المزعوم أولوية عن التصدي للسرطان الناتئ في جسد الأمة المسمّى كيان الصهيونية النجسة .

لم نواجه الحقيقة وكابرنا على أنفسنا جميعاً، فمشكلة العروبيين والمسلمين أنهم ما حدّدوا عدواً مشتركاً لهم ولا اتفقوا على ماهيته.

مشكلتهم أنهم منقسمون بين فلسفتين متناقضتين… إحداها ترى أحقية الرقيّ والتقدّم بأسهل الطرق ولو على حساب السيادة والدخول في التبعية، والأخرى ترى أحقية الرقيّ والتقدّم بغير تفريط في السيادة. السيادة التي أثبت التاريخ انعدامها إذا ما ترافق طريق تحققها بالذلّ والخنوع.

ولأنّ الحقيقة لا يمتلكها أحد بالمطلق إلا بمقدار حسابات الغنم والغرم، كان لكلّ حقيقته التي تبناها تبعا لرؤيته الأحادية.

وكان الملخص لما سبق قيام الانقسام العربي الإسلامي بتجلي المحورين، محور المقاومة و محور الاعتلال .

زاد الضياع أكثر فأكثر، ودخل القوميون العرب في متاهة تحديد الأولوية، فبدلاً من الإجابة عن أهمّ سؤال منقذ للعقل المستقيل: لماذا تعادي الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية الجمهورية الإسلامية الإيرانية التفت أغلب العروبيون نحو شوفينية بغيضة أذكت نارها ذاكرة ركيكة تناست تاريخ الإجرام الغربي.

نجح أعداء الأمة إلى حدّ بعيد في تثبيت صفة المقاومة اللون الطائفي الواحد على المحور المقاوم، فجاهد المقاومون لضحد الافتراءات بكلّ الوسائل المجدية، وكان التواصل مع الحركات الإسلامية المقاومة ضرورة ملحة على كلّ المستويات، وباتت حركة حماس الإخوانية ومثيلاتها دليلاً حاضراً وحجة بليغة لدى المقاومين العرب للردّ على مطلقي نظرية المقاومة اللون الواحد ولإثبات أنّ المشروع المقاوم لم يكن في يوم من الأيام طائفياً.

وبذل المقاومون محاولات كثيرة وجهود كبيرة لإعادة المناهضين الشوفينيين إلى الصف الواحد، لكنها سقطت جميعاً عندما خرجت حماس لتناهض أهم دول محور المقاومة سورية معتمدة على ذاكرة دينية قبيحة هي أقبح من أي ذاكرة عربية ركيكة.

انقلبت حماس وانقلب المشهد العاطفي رأساً على عقب وبات كلّ ما فيه فوضوياً، وصارت صورة الإسلام المهادن بالنسبة إلى صورة الإسلام المقاوم مخزية جداً.

فبرغم إدّعاء الجميع الوحدة، وبرغم زعمهم وحدانية الإسلام بلا متفرّعات ولا نظائر، أثبت واقع الحال غير ذلك، فصورة الإسلام الظاهرة التي اشتغل الغرب عليها بمعية محميات النكد الخليجي المسيطرة على قدسية المكانة باحتلالها الأماكن المقدسة كانت مروّعة جداً، حالها كحال صورة العربي الظاهرة.

وباتحاد المشهد في العقول المستقيلة لمعتلي النوق وغاسلي الجنابة من بول الحمير ومجاهدي النكاح ودعاة إرضاع الكبير والمتحرّرين ضمن حدود خيام الجهل الصحراوي لم يعد أحد يرى في صورة العربي المسلم غير سواد النفط ورائحة الدم والجنس الحرام.

أصبح المشهد جاهزاً لاستكمال مشروع التدمير وتطبيق توصيات لجنة ميتشيل المطروحة منذ عام 1907، وأزهر ربيع الدجال ناراً وحقداً بمعية ذات الأدوات العربية المسلمة المدمّرة، غير أنّ سورية العربية المقاومة أفشلت بدماء أبنائها من أسود الحق العقائديين مشروع الفتنة والتدمير، وكان الصمود الأسطوري عنوان نصر المقاوم وعنوان هزيمة المهادن.

جنّ جنون أميركا رافضة القبول بالهزيمة، وجنّ معها صبيانها الذين استشرفوا العقاب الأمريكي بالتخلي عنهم، وفي محاولة أخيرة لاسترضائها هبّ العبيد ليثبتوا أنهم قادرون وأنهم فاعلون، فطرحوا كلّ ما في جعبتهم من جنون.

تحالفت قوى الظلام المنتشرة على الساحة العالمية، ففكرت ثم قرّرت، واختير العراق المثقل بأعباء الطائفية السياسية البغيضة والبنية الاجتماعية المهترئة لاستكمال مشروع التفجير، تفجير إنْ حصل فإنه لن يقتصر على وادي الرافدين وحسب، بل سيكون انتشاره كنار تأكل حصيداً منشوراً من بوابة فاطمة وحتى برّ الصين.

لقد ملّت العامة من طول توصيف حالة العرب والمسلمين، وضجّ لسان حالها بالتساؤل: ماذا بعد، مُغفلة قول أسد سورية بأنّ البعد يحدّده العامة ذاتهم، وأن المستقبل يرسمه أبناء الأمة بما يختارونه من ركون إلى حقيقة يراها المقاوم أو حقيقة يراها المهادن.

تنطّح العقل المستقيل للسير مع تيار الغرائزية مقنعاً ذاته بأفضلية المنفعة على أحقية المصلحة، وصارت الأغلبية تجزم بأنّ الأغلبيةً لا تريد تحمّل المسؤولية، وأنّ الأغلبية ترى الحقيقة وتخشى الدلالة عليها.

وكما ابتدأ الأمر في سورية بإطلاق شعارات الحرية ثم بترويج ألفاظ التخوين والتبرير لمنفعة التمزيق، بُدئ الأمر كذلك في العراق الجريح.

ولأنّ حقيقة المقاومين مختلفة جذرياً عن حقيقة المهادنين، انتهت أحلام التقسيم في سورية كما ستنتهي أوهام التقسيم في العراق.

على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وأسباب الصمود في سورية لا بدّ أن يُشتغل لأجل توفيرها في العراق، فالجميع مسؤول في الإنقاذ الذي لا يجوز أن يبتدئ بغير المصالحة الوطنية الكاملة وبإعادة التقييم الشامل لكلّ ما جرى على صعد الحياة كافة منذ دخول الغازي الأمريكي وحتى لحظة دخول الغازي الداعشي.

الحقيقة مرة وثمنها كبير قد يبتدئ بتدمير الحياة السياسية لمعلنها، ولعله لا ينتهي بغير إراقة دمه وإزهاق روحه، فهل من ناصر للحق لا يهاب في الحق لومة لائم.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه ، ويقول العقل والمصلحة أن الحق كل الحق هو عراق موحد.

محام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى