لوكينو فيسكونتي أكثر السينمائيَين الإيطاليّين أرستقراطية

كتب معتز نادر

أسلوب الواقعية الجديدة في السينما، الذي ظهر فعلياً عام 1948 عبر فيلم «الأرض تهتز» للمخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي، حائز جائزة التميز في مهرجان البندقية، لم تكتب له الاستمرارية إلاّ ثمانية أعوام فحسب، عبر أفلام إيطالية أشهرها «روما مدينة مفتوحة»، لروبرتو روسلليني و»سارق الدراجة» لفيتوريو دوسيكا. والمخرجان روسلليني ودوسيكا من رواد هذا الأسلوب، كما اعتبر فيلم «سارق الدراجة» من كلاسيكيات السينما العالمية لسنوات طويلة. ورغم ذلك، ظل أسلوب الواقعية الجديدة الذي يعتمد تصوير المشاهد خارج الاستديوات في بيئة واقعية ركيزة لأهم الأفلام السينمائية إلى يومنا هذا، بسبب دخوله أدق تفاصيل الحياة اليومية الطبيعية، فارضاً تأثيره في السينما الأوروبية خاصة والعالمية عامة، ولا تُستثنى من ذلك السينما الأميركية لكونها الأكثر إنتاجاً والأعلى نسبة إيرادات.

فيسكونتي، المعروف لدى نقاد الفن السابع بأنه أكثر المخرجين الماركسيين أرستقراطية، لكونه سليل عائلة من طبقة النبلاء، سخرت سينماه الديكورات الفخمة والأزياء وأجواء الأبهة والمناظر الخلابة لخدمة مشروع سينمائي تعبيري مجدد، يسعى إلى أقصى حدود الجمال في الصورة السينمائية، وهو صاحب أول تجربة سينمائية واقعية رائدة غيرت مسار الفن السابع وإلى الأبد.

ولم ينظر فيسكونتي باهتمام كبير إلى الواقعية الجديدة على ما تُظهر أفلامه لاحقا، وبالتالي لم يعتبرها حلماً أساسياً لمشروع سينمائي خالص يرتكز عليه مشروعه الفني الشخصي، بل انطلق لاحقاً إلى عوالم البحث عن الجمال المطلق في السينما، متجاوزاً الواقعية الجديدة من خلال مشاهد أفلام تكتنز لغة سينمائية عميقة وجدية تجتمع من خلالها مقومات العمل السينمائي كافة من سيناريوات رفيعة المستوى كانت تستند إلى أعمال أدبية عظيمة. فضلاً عن الديكورات الفخمة والأزياء التي تعكس جمالاً أخاذاً وتمنح بعداً لعمق الصورة ودفقاً من مشاعر الحنين إلى الماضي، مع حزن خفي صامت وانفلات روحي يحكم معظم الشخوص الرئيسية في أفلام مثل: «الليالي البيضاء» 1957 المأخوذ عن رواية لدوستويفسكي، فضلاً عن فيلم «روكو وأشقاؤه» 1960 ، والفهد 1963 المأخوذ عن رواية الإيطالي جوزيبي لامبيدوزا السعفة الذهبية لمهرجان كان.

«روكو وأشقاؤه» ليس في شهرة «موت في البندقية» أو «الفهد»، لكنه لا يقل فنيّة وعبقرية عنهما، فضلاً عن فيلم «الغريب» 1967 عن رواية ألبير كامو التي تحمل العنوان نفسه، وفيلم «الملاعين» 1969 عن عائلة أرستقراطية زمن نهضة الصناعة الألمانية، بالإضافة إلى فيلم «موت في البندقية» 1971 عن رواية الكاتب الألماني توماس مان وحاز أيضاً جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، ويرصد فيه قصة كاتب ألماني يعيش أزمة إبداعية ليكتشف أخيرا أن عاطفته وشهوته المادية تتفوّقان على نقائه الإبداعي، وفيلم «نجوم الدب الأكبر» 1965 حاصد جائزة الأسد الذهبي بمهرجان البندقية.

فيسكونتي المتحدر من عائلة أرستقراطية نبيلة، ولد في ميلانو وتوفي في روما. نشأ فنياً كمخرج مسرح وأوبرا وسافر في شبابه خلال الحرب العالمية الثانية إلى فرنسا للعمل كمساعد مخرج ومهندس ديكور لدى السينمائي الفرنسي المشهور جون رنوار في فيلم «نحو الحياة»، ثم أخرج أوبرا «توسكا» عام 1936، قبل أن يخوض تجربته الإخراجية الرائدة ضمن مدرسة الواقعية الجديدة عام 1942.

في بداياته أنجز فيسكونتي فيلماً مقتبساً من عمل أدبي أميركي عنوانه «ساعي البريد يقرع دوماً الباب مرتين» للكاتب الأميركي جيمس كين، وتعرّض الفيلم لمقص الرقيب في زمن إيطاليا موسوليني، تحت ذريعة المشاهد الجسدية المبالغ فيها، لكن الفيلم نبّه آنذاك إلى سينما مختلفة ومتمرّدة عن سابقتها. كما أنجز فيسكونتي مطلع الخمسينات فيلم «رائعة الجمال» الذي كتب له السيناريو الصحافي الإيطالي سيزار زافاتيني أول مطلقي صفة «الواقعية الجديدة»، وكان الفيلم من بطولة النجمة الإيطالية آنا مانياني، وينتقد الفيلم في أسلوب ساخر أجواء صناعة السينما آنذاك التي لا ترحم خصوصية المشاعر الإنسانية، خاصة الطفولة.

عقب عودته إلى إيطاليا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية منتصف الأربعينات، دخلت السينما الإيطالية مع ربّان واقعيتها فيسكونتي الذي تخلى عنها لاحقاً، مرحلة جديدة في ما يخص مجال الإبداع السينمائي على مستوى الحبكة الدرامية، والاقتراب أكثر من حياة الشخوص، خاصة بعد الأضرار التي لحقت باستوديوات السينما على خلفية الحرب العالمية الثانية، كما خلفت سينما سنوات الأربعينات جيلاً سينمائياً آخر فضل الإبداع غير المقيّد على الانضواء تحت منهج محدد، وبرزت أسماء مخرجين مثل فيديريكو فيللييني ومايكل أنجلو أنطونيوني وغيرهم. فيما راح فيسكونتي يحلّق في أفق جمالية سينمائية خاصة ونوعية متعلقة ببهاء الصورة السينمائية وبشكل محاكاتها للواقع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى