كينغ روبو أسطورة فنّ الغرافيتي البريطانيّ يسقط من أعلى السلّم

كتب عدنان أحمد من لندن

هناك فنانون تشكيليون بريطانيون مشهورون جدا لكنهم مجهولون لدى الناس لأنهم معتكفون ومتوارون عن الأنظار تماماً، يعيشون حياتهم السريّة الخاصة، ويجدون متعة كبيرة في محو معالمهم الخاصة وحجب سيرهم الذاتية وأنشطتهم الفنية التي تجد طريقها إلى الناس خلسة. وهذا بالتمام ما حصل مع فنان الغرافيتي البريطاني كينغ روبو الذي ظل مجهولاً طوال حياته التي لم تجتز الخامسة والأربعين عاماً، غير أنه عاش مشهوراً ذائع الصيت.

كان كينغ روبو ينشر أعماله الغرافيتية الرسوم والكتابة على الجدران كلّما عنّ له ذلك، مالئاً الدنيا وشاغلاً الوسط الفني البريطاني، من دون أن يطل علينا إطلالة واحدة بالصوت أو الصورة، وإذا ظهر لسبب اضطراري جدا فإنه يظهر بوجه مُقنّع لا تبرز منه إلاّ عيناه اللتان لا تفضيان إلى معالم وجهه المخبأة التي تحوّلت إلى طلسم محيّر يتوق الناس إلى فكّه ومعرفة أسراره الدفينة.

لم يكن كينغ روبو فنان الغرافيتي الوحيد المجهول في المملكة المتحدة، فثمة فنان غرافيتي آخر ما زال متوارياً عن الأنظار منذ سنوات طويلة هو روبرت بانكسي الذي يُعرف باسمه الأخير فحسب، وهو العدو اللدود لروبو منذ ثلاثة عقود تقريباً. واقترن اسم بانكسي بروبو حتى في خبر وفاة هذا الأخير إذ نشرت صحيفة «الغارديان» مقالاً تحت عنوان لافت «كينغ روبو، منافس فنان الغرافيتي بانكسي، يموت»، كأنّ هذا الموت سوف يخفف من أعباء بانكسي التي تحمّلها منذ بدء المنافسة عام 1985 مع عَلَم آخر من أعلام الغرافيتي «المجهولين» أو «المتوارين عن الأنظار».

في الثاني من نيسان 2011 عُثِر على الفنان كينغ روبو مُصاباً إصابة خطيرة في رأسه يُعتقد أنها ناجمة عن السقوط من أعلى السُلّم، واضطرته هذه الإصابة البليغة إلى البقاء طريح الفراش خاملاً لمدة ثلاث سنوات حتى فارق الحياة في 31 تموز الفائت نتيجة مضاعفات صحية حادة بحسب فريق عمله على موقعه الشخصي، ولم تُوجّه التهمة إلى أحد، بما فيهم خصمه الدائم بانكسي الذي سقط في قلب الدوائر الضوئية الملونة للشهرة منذ مطلع الثمانينات من القرن الفائت، من دون أن يكلّف نفسه عناء الظهور إلى العلن.

لعِب التلفزيون البريطاني دوراً كبيراً في شهرة الفنانيْن روبو وبانكسي وذيوع شهرتهما، فهما ليسا فنّاني الغرافيتي الوحيدين في هذا البلد، إنما هناك أسماء فنية كثيرة يمكن أن نشير إلى أبرزها مثل كارترين، ستيك، بول إنسيكت من لندن، ومجموعة كبيرة من بريستول مثل أندي كاونسل، نيك ووكر، بِن ويسلون وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعاً، علماً أن بعضهم متوارٍ عن الأنظار أيضاً. كانت قصة الخصومة بين روبو وبانكسي موضوعاً للقناة التلفزيونية البريطانية الرابعة التي عرضت فيلماً وثائقياً يحمل عنوان «حروب الغرافيتي» في آب 2011 حتى بات الاثنان أشهر من نار على علم!

رسم روبو قطاره الأول كعمل غرافيتي عام 1985 في قناة ريجنت في كامدن التي يمكن الوصول إليها عن طريق الماء فحسب. وكان العمل عبارة عن قطعة غرافيتية ملونة كبيرة الحجم تدعى «روبو المحدودة» التي أصبحت على مدى السنوات أقدم قطعة غرافيتية في لندن. أُزيلت جميع أعمال روبو تدريجياً من القطارات والجدران في مدينة لندن ولم يبق منها سوى هذه القطعة التي أوحت، على ما يبدو، للمعنيين بالأجناس الفنية أهميتها وضرورة بقائها كعمل فني غرافيتي ماثل للعيان.

عام 2009 شوّه بانكسي غالبية رسوم روبو، إما بالأصباغ البخاخة، أو بلصق رسوم جديدة عليها، أو تخريبها بأي شكل من الأشكال. صرّح روبو بأن بانكسي قُدِّم إليه ذات مرة بغية التعارف في تسعينات القرن الفائت، فما كان من هذا الأخير إلاّ أن يقول بفظاظة: «إنه لم يسمع به« فردّ عليه روبو بصفعة على قفا رقبته أذهلته وأسقطت نظارتيه من وجهه.

لم يقف روبو مكتوف اليدين حيال تشويه بانكسي لأعماله، إذ ردّ هذا الأخير بكلمات نابية وشتائم ظلت تتوالى بينهما حتى تشرين الثاني 2011، أي بعد ثلاثة أشهر من عرض فيلم «حروب الغرافيتي» وذهب بانكسي بنفسه إلى جدارية روبو في كامدن ورسم عليها تاجاً وشمعة موقدة تحية لروبو، في محاولة جادة منه لإنهاء الخلاف مع منافسه الأبدي الذي كان لا يزال غارقاً آنذاك في غيبوبته الطويلة التي وضعت حدّاً لحياته.

ثمة معارك عديدة على الجدران اندلعت بين روبو وبانكسي، لكننا اكتفينا بذكر بعضها، وحسبنا أن روبو، كما زعم أعضاء فريقه، قد غيّر وإلى الأبد فن الغرافيتي في العالم رغم قصر حياته.

لا بدّ من الإشارة إلى أن الغرافيتي ليس جديداً، إنما يعود إلى أيام الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية القديمة. وتُعتبر الألوان البخّاخة وأقلام الخط و«التأشير» أو «التظليل» أبرز الأدوات المستعملة في هذا النمط الفني الذي ينطوي دوماً على رسائل اجتماعية وسياسية تُعبّر عن روح العصر، وتجسّد هموم فئات واسعة من الناس. ليس في وسعنا أن نفعل شيئا سوى أن نحيّي روبو الذي ظل متوارياً لثلاثين عاماً قبل أن يدخل في رقاده الأبديّ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى