«رسالة إلى أمي» لجورج سيمونون كتاباً مؤثّراً ثم عملاً مسرحيّاً ناجحاً

بعد النجاح الكبير الذي سجّلته مسرحية «رسالة إلى أمي» لروبير بونوا في المهرجان الوطني للأنشطة الثقافية في مدينة أفينيون الفرنسية لموسم 2013، لقيت المسرحية نفسها، من إخراج ناتاليا أبيكيشيفا، الإعجاب نفسه لدى إعادتها، حديثاً، في إطار المهرجان نفسه في تموز الفائت 2014..

«ماما العزيزة، ها قد مرت زهاء ثلاث سنوات ونصف سنة على وفاتك في سن الثانية والتسعين، وربما الآن فحسب بدأت بالتعرف إليك. عشت طفولتي ومراهقتي معك في المنزل نفسه الذي كنت تسكنين فيه، وحين تركتك لألتحق بباريس، في التاسعة عشرة من عمري تقريباً، صرت بالنسبة إليّ شخصاً غريباً. على فكرة، ما ناديتك في حياتي ماما، إنما كنت أناديك أمي، كما أنني لم أكن أنادي أبي بابا. لماذا؟ من أين أتى هذا التعامل؟ لست أدري».

هذا النص من السيرة الذاتية لجورج سيمونون صرخة ألم من طفل غير محبوب، نادم على عدم استطاعته التواصل مع أمه الراحلة، أملاه في بضعة أيام، بعد ثلاث سنوات من وفاة هونرييت برول، والدة سيمونون. يتساءل في هذا النص عن صميم علاقاته الملتبسة، المشحونة، غير المتماسكة لناحية حدتها، التي كانت تجمعه بوالدته. عن هذه العلاقة كتب ماثيو روتان: «إنها إجمالاً تلك العلاقات، الدرامية أحياناً، التي سادت طفولة الكاتب ومراهقته، والتي شكلت تكوينه، وحرضته، ليس على نبذ نمط العائلة، المجتمع، الحضارة أو الثقافة التي تجسدها والدته فحسب، بل حملته أيضاً على المغادرة، على الهرب من سقف الأمومة».

عام 1970، كان على سيمونون أن يمضي ثمانية أيام قربوالدته المريضة. لبث تلك المدة بجانب سريرها في مستشفى بافيير لييج، بلجيكا ، في وضعية «وجهاً لوجه» حادة وغريبة، تسودها قوة النظرات وفصاحة الصمت، وتسوق هذين الكائنين إلى منابع شخصيتيهما القويتين! . وفي تعبيره عن تلك اللحظات كتب جورج سيمونون: «إنها في الآن نفسه حياة والدتي وحياتي، مع كل ما كان بيننا من سوء تفاهم، ومن حنان أيضاً، من عداوة أحياناً».

وصف بيار أسولين «رسالة إلى أمي» بالمؤلف المؤثر ذي الجودة النادرة وبالكتاب الاستثنائي: «كأنها انتفاضة أخيرة لعبقرية متقاعد من الخيال الرومانسي. إنه كتاب خارج على التصنيف، يتعدى سائر المعايير بقوة بلاغته».

نلمس لدى الكاتب الاستحواذ الذي لا مفر منه في نظرة أمّ. لعلنا في قلب هيمنة غموض سيمونون. بعضهم رأى في ذلك مفتاح شخصيته وسرّ عبقريته. إنه في أيّ حال أسلوب بعيد عن تاريخه الأدبي.

كتبت أسبوعية «مينوت» عدد 662، 1974 ، تحت عنوان «في البحث عن صورة ضائعة»: «قد يبدو أمراً مفارقاً، لكنه هكذا: كان ذلك بعد اعتزاله رسمياً الكتابة، عندما منحنا جورج سيمونون كتابه الأجمل والأكثر إثارة للمشاعر. سنحت لنا الفرصة هنا أن نفسر ماذا يعني «التوقف عن الكتابة» في الواقع، فلا ينبغي أن نأخذ في الاعتبار، والحالة هذه، الكلمة بما تحمل من معنى. هذا يعني ببساطة تامة أن جورج سيمونون، وهو الآن في عقده السابع، قرر التخلي عن الرواية ليتفرغ من الآن فصاعداً للذكريات والتأمل. إنه يريد أيضاً القول، وهو يلعب إلى حدّ ما بالكلمات، إنه تخلى عن استعماله الشخصي لأقلامه الصفراء المعهودة كي يستسلم للبوح المباشر لآلة التسجيل الصوتي، وإن الأشرطة يُفرغ كاتب محتواها على الورق. لكن كم من العناية تحتاج منه إعادة قراءة ما كتب وتصحيحه، للسمو بالأسلوب لو أخذنا في الاعتبار ذاك الصفاء وتلك الدقة اللذين كتب بهما «رسالة إلى أمي» ويشكل بالتأكيد كتابه الأكثر صحوة والأكثر عناية في الوقت نفسه».

موت الأم هو بلا ريب، موضوع لطالما ألهم الأدباء، محفزاً على غرار ما ورد أحد أجمل كتب روجيه بايريفيت والصفحات الأقل إثارة للأعصاب لسيمون دو بوفوار. تلك اللحظة التراجيدية في الحياة البشرية كانت تتعدى دوماً جميع الآلام والتمزقات. إنها لحظة التساؤلات الكبرى، لحظة أسمى التساؤلات.

نودي سيمونون على عجل لكون والدته تحتضر، وافتها المنية في سن الثانية والتسعين في مستشفى ببلجيكا، وبدأت التساؤلات تتواتر في ذهنه، ولعل أهمها: أكان يعرف والدته حقاً؟ هل لديه أصلاً ما يكفي من القدرة لمعرفتها الآن، ساعة موتها؟ ومع التساؤلات تثور الذكريات. للإجابة عن السؤال الأكبر يعيد التاريخ نفسه ويعاد تكوين الحكاية بالتدريج جزيئاً جزيئاً، بلمسات خفيفة ودقيقة أكثر فأكثر، تماماً مثلما يفعل عالم آثار، مثيرة للإعجاب بطريقة تفكيك ألغازها وبقوة ما تفصح عنه، لكن، على ما يشير الكاتب نفسه، مع فراغات بيضاء، يستحيل ربما ملؤها كاملة.

بيد أنه، مع تقدم عملية البحث على امتداد 120 صفحة، تتضح معالم صورة نشعر بأنها حقيقية إلى حد يدفعنا إلى الصراخ انبهاراً. بهذه الصورة، يُبعث حوله مجدداً عالم كامل: مدينة لييج مطلع القرن، الأزقة القديمة، الفقر الذي نراه ملائماً، الخوف من البؤس الشديد، صور، روائح وأحاسيس. موهبة سيمونون الرائعة في عرض الأماكن، الناس والأجواء من خلال بضع كلمات، إنما كم هي منقحة ومركزة حول البحث المتعطش لشخصية «هذه المرأة الممددة الآن فوق سرير المستشفى، لكنها في العالم الآخر».

كذلك قصة الطفل ذي الأعوام السبعين وهو في بحث مستميت ليفهم والدته أخيراً، والصراع المستمر، المر، القاسي أحياناً، الذي كانت عليه حياة هذه الأخيرة، تشد القارئ منذ الجملة الأولى من دون إفراط أو إسهاب أو تهويل، ومن دون كلمة زائدة، تفرض نفسها، وسرعان ما يخالجنا إحساس بأننا نعيشها بالوتيرة نفسها، بالزخم عينه على غرار سيمونون نفسه، هذا الهدوء المُقَنّع الذي لطالما اعتصر الوعي بتعقيد الكائنات والحياة.

لربما لم يبلغ سيمونون هذه الدرجة من البوح الذي جاد به في هذا السرد القصير. لكن أبداً، بكل تأكيد، لم يفعل ذلك بتلك الدرجة من الاستحياء العميق تحت قسوة صراحته ودقته، التي تبدو، منذ «لما كنت عجوزا»، أنها أصبحت توجه ريشته.

باقتباس محبوك للمخرجة ناتاليا أبيكيشيفا، أدى روبير بونوا وحده على الخشبة مسرحية «رسالة إلى أمي»، لكن سرعان ما سيكتشف المتفرج أن الأمر لا يتعلق برسالة، بل بشبه تصفية حساب. إنه تحقيق بوليسي ، فابتداء من الفصل الأول، سيقوم والد العميد «ميغري» بتشريح الجثة: «لم نكن متحابّين البتة لما كنتِ على قيد الحياة. تعرفين ذلك جيدا. كلانا كنا نتصنع لكي أمحو جميع الأفكار الخاطئة التي كونتها عنك، لكي أسبر حقيقة كيانك ولكي أحبك، فإني أتأملك، أجمع بقايا ذكريات وأفكر».

للتذكير، جورج سيمونون كاتب بلجيكي من أغزر الأدباء، له 192 رواية و158 رواية قصيرة والعديد من السير الذاتية، والمقالات والريبورتاج التي صدرت باسمه، أما التي صدرت تحت أسماء مستعارة فعددها 176 رواية، وعشرات الروايات القصيرة والعديد من القصص الطريفة والمقالات التي نشرت تحت 27 اسما مستعاراً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى