ما أحوج زمننا إلى فكر أرسطو … لا قداسة ولا تعصّب في البحث عن الحقيقة

كتب محمد زكريا توفيق

العارف بأفلاطون يعرف أن كان لديه تلميذ نجيب يدعى أرسطو، أضحى فيما بعد فيلسوفاً يضاهي، بل ربما يفوق، أستاذه في الشهرة وغزارة الإنتاج الفكري. وربما يعرف أيضاً، أن لأرسطو تلميذاً آخر إسمه الاسكندر الكبير الذي أضحى بمجرد تخطيه سن الطفولة واحداً من أعظم القادة العسكريين وألمع الغزاة وبناة الإمبراطوريات الذين عرفهم التاريخ.

سلالة غير عادية من البشر أنجبها ركن صغير من المعمورة يدعى بلاد الإغريق في القرن الرابع قبل الميلاد. لكن التلميذ لا يسلك غالباً، الدرب نفسها التي يسلكها أستاذه. أنشأ أرسطو مدرسته في مدينة أثينا وكانت تضاهي بل تتفوق على مدرسة أفلاطون الأكاديمية.

إمبراطورية الاسكندر الكبير كتبت سقوط أثينا، المدينة – الدولة، وكان يعتبرها أرسطو أفضل صيغة ممكنة للحكم. إمبراطورية الاسكندر كانت عبارة عن تجمع كبير من الأجناس والممالك المختلفة، تمتد شرقاً من بلاد الإغريق وتصل إلى مشارف بلاد الهند. وداخل الإمبراطورية فقدت المدن الإغريقية التي بنى عليها أرسطو جميع الآمال في تقدم الإنسان حريتها وكبرياءها ولم تستطع استعادتهما البتة.

قصة أرسطو 384 322 ق. م متشابكة مع الحوادث التي وقعت في مقدونيا، شمال اليونان على ساحل بحر إيجة، فنصف سكانها خليط من الإغريق ومن البرابرة، أي ن الشعوب غير الإغريقية.

لم يولد أرسطو في أثينا مثل سقراط وأفلاطون. والده كان طبيباً في بلاط ملك مقدونيا. عندما كان صبياً كان يعيش في جو علمي، ربما كان يعدّ ليصبح طبيباً مثل والده. وفي سن السابعة عشرة، عندما توفى والده، ترك وطنه وتوجه جنوباً إلى أثينا، عاصمة الحضارة الإغريقية، لكي يلتحق بأكاديمية أفلاطون ويتعلم على يديه. وهناك، ظل في الأكاديمية عشرين سنة يدرس ويكتب ويدّرس الفلسفة والرياضيات وعلوم الأخلاق والسياسة والجمال. هل للجمال علم؟ بلى، وهو فرع من فروع الفلسفة.

كان أرسطو قبل الميلاد بثلاثة قرون يدّرس الفلسفة وعلم الجمال في أثينا، ونحن في القرن الحادي والعشرين نناقش عذاب القبر والثعبان الأقرع ورجم القرد الزاني ونقيم محاكم التفتيش لمن ينكر ذلك!

كان أفلاطون يصف أرسطو بأنه العقل المفكر لمدرسته «الأكاديمية». لكن لدى وفاة أفلاطون عيّن سواه رئيساً للأكاديمية. لذا ترك أرسطو أثينا وتوجه شمالاً إلى ساحل آسيا الصغرى وجزيرة لسبوس، وأمضى فترة زمنية لدى زميل دراسة قديم وأمسى حاكماً لمقاطعة ساحلية غير مهمة وتزوج من ابنة شقيق زميله. خلال هذه المدة، استعاد اهتمامه الأول بالعلوم الطبيعية فكان يدوّن الملاحظات والبيانات، خاصة عن أشكال وعادات الأحياء المائية التي صادفها على الساحل. وفي ذلك الوقت كان فيليب ملك مقدونيا رجلاً ذا قدرة هائلة وعزيمة قوية. كان يحوّل بلده مقدونيا طوال سنين من دولة فقيرة بائسة يشتغل شعبها بالصيد إلى مملكة غنية قوية ذات جيش جرار لا يقهر.

كان جيش فيليب منظماً يتدرب على نظام جديد للقتال، ويتكون من كتل عديدة ضخمة من المشاة وعرف بالتشكيلات السلامية المقدونية. بهذا الجيش والثروة الجديدة المكتسبة، حاول إغراء المدن اليونانية بالانضمام إليه لغزو الإمبراطورية الفارسية القديمة التي تمثل خطراً يهدد بلاد الإغريق على الدوام. لكن المدن اليونانية كانت تشك في نوايا فيليب المقدوني. في أثينا، مثلاً، هاجم الخطيب ديموثينيس فيليب ووصفه بأنه طاغية يزعم مساعدة شعبه فيها يحوذلهم جميعاً إلى عبيد له.

في الوقت نفسه، كان فيليب يبحث عن مدرّس إغريقي متميز لتعليم ابنه الوحيد النجيب، الاسكندر، وكان مراهقاً في الثالثة عشر. في عام 343 ق. م، عرض الوظيفة على أرسطو، الذي قبلها عن طيب خاطر.

لم يكن فيليب يعلم شيئاً عن رأي أرسطو السياسي في ما يدور في بلاد الإغريق. عام 340 ق. م، في سن الخامسة عشرة، حكم الإسكندر مقدونيا، نيابة عن والده فيليب أثناء غزوه بلاد الإغريق.

وفي عام 338 ق. م، واجه جيشا أثينا وطيبة جيش فيليب، لكن الإغريق هُزموا هزيمة منكرة أمام جيش فيليب في موقعة خيرونيا. ثم سقطت باقي بلاد الإغريق تباعاً تحت الاحتلال المقدوني. وبعد ذلك بعامين اغتيل فيليب المقدوني وكان على وشك التحرك لغزو بلاد فارس. خلفه ابنه الاسكندر الذي ورث عن أبيه، وربما أكثر من أبيه، العبقرية والطموح. وأول ما فعله الاسكندر هو إجبار الإغريق على الامتثال لحكمه. بعد ذلك غزا كامل بلاد شرق المتوسط، الواحدة بعد الأخرى، بلاد ما بين النهرين، مصر، وفارس. جاء كمخلص، محارباً العنصرية والطائفية والعوائق السياسية، وبانياً المدن على النمط الإغريقي وجاعلاً إيّاها مراكز للنور والثقافة والحضارة والإدارة. وبينها مدينة الاسكندرية في مصر، على سبيل المثال، ومدن أخرى شرق تركستان وعلى حدود الهند.

عام 323 ق. م، وعلى غير المتوقع، توفي الاسكندر بالحمى، ثم قام قادته بتقسيم إمبراطوريته الوليدة في ما بينهم بعد حروب طاحنة.

بعدما تقلد الاسكندر مقاليد الحكم، عاد أرسطو إلى أثينا التي أضحت تحت الحكم المقدوني. استأجر هناك مبنى كان مخصصاً للإله «أبوللو ليسيوس»، ويعني اسمه أبوللو أمير الضياء. ليسيوس كلمة مشتقة من كلمة الضياء باليونانية. ثم كان اسم المدرسة التي أنشأها أرسطو «الليسيوم».

في مدرسة الليسيوم، جمع أرسطو الكتب والمخطوطات، وعينات علمية من المواد والأحياء المختلفة للأبحاث والدراسة. وأنشأ أرسطو حديقة نباتات وحديقة حيوانات وطيور للدراسة. أحد تلاميذه أو أكثر كانوا يرافقون الاسكندر في حملته نحو الشرق ويرسلون ما يصادفهم من نباتات وحيوانات أو طيور غريبة إلى مدرسة أرسطو. وفي مدرسة الليسيوم كان أرسطو يقوم بالأبحاث ويحاضر في كل فرع من فروع العلوم المعروفة في ذلك العصر. وكان يدرّس في الهواء الطلق سائراً على الشرفات المكشوفة التي تطل على الحديقة. هذا الأسلوب الجديد في التدريس جعل الليسيوم مركزاً لدراسة العلوم الحديثة وأبحاثها مثل العلوم الطبيعية والفلسفة والعلوم السياسية وغيرها. بالنسبة إلى نشاط المدرسة وحجمها ومدة بقائها وعدد طلابها فإنها تجاوزت مدرسة أفلاطون الأكاديمية التي ظلت تعمل وفقاً للبرنامج الذي وضعه لها أفلاطون قبل وفاته.

لكن موت الاسكندر الكبير الباكر وضع نهاية لنشاط أرسطو في أثينا. الشعور الوطني المتنامي ضد المقدونيين بدأ يتكثف في المدينة بسبب وجود المحتل. تحول هذا الشعور بعد وفاة الاسكندر إلى كره وعداء سافرين لكل من كانت له صلة بالمقدونيين. وضع أرسطو كمدرس سابق للاسكندر، عائد إلى أثينا بعد نصر المقدونيين المؤزر على الإغريق تحت المراقبة وعانى بعض المضايقات. ثم علت الأصوات تطالب بمحاكمته، مثلما حاكمت أثينا قبلاً سقراط وأعدمته قبل 80 عاماً. لكن قبل أن تعقد محاكمة لأرسطو فر مرة ثانية إلى الشمال كي لا تجرم أثينا في حق الفلسفة مرتين. هناك في كالسيس، توفى أرسطو بعد سنتين من وصوله. ترك وصية يحرر فيها عبيده من الرق. واستمرت مدرسة الليسيوم بإدارة تلاميذه لمدة ثمانية قرون بعده، حتى إقفالها مثل أكاديمية أفلاطون على أيدي الامبراطور المسيحي قسطنطين. كانت الفلسفة في عهد هذا الأخير حراماً.

بذلك يكون تم الانتقال من الفلسفة إلى الدين، ومن أفلاطون إلى المسيح، وأسدل الستار الكثيف على العقل والفكر، وبدأت رحلة الألف سنة من العصور المظلمة والعصور الوسطى، حالكة السواد والبؤس.

أيام أرسطو عاشت المدن الإغريقية مجدها واستطاعت أن تدافع عن حرياتها وأسلوبها في الحياة ضد غزوات الفرس المتكررة. لكن بعدما فشلت تلك المدن في وأد خلافاتها فقدت استقلالها وأُغلقت مدارسها وخبت شعلة حضارتها. ولو استثنينا فترات قليلة قصيرة من عمر بلاد الإغريق لألفينا أن هذا الوضع البائس ظل على حاله حتى القرن التاسع عشر.

عاصر أرسطو بداية تلك الحوادث وكان يعرف أبطالها. ترك لنا فكراً عميقاً عظيماً رائعاً في كثير من المواضيع. في سائر المعلومات التي تركها لنا لم يعقب بكلمة واحدة على ما كان يدور في زمنه من حوادث. لم يحدثنا أرسطو عن الثورات التي كانت تدور حوله. شاهد سقوط بلاد الإغريق وغزوات الاسكندر ولم يعرها اهتماماً. إنها حوادث بلا قيمة خالدة في نظره. كان تركيز أرسطو على أمور أفضل خالدة، على معنى أعمق، على المبادئ وقوانين الطبيعة التي لا تتغير، على وجود الإنسان المتحضر وسلوكه وعلى العقل والمنطق والمعرفة والفنون.

لدينا مذكراته ومحاضراته التي كان يلقيها على طلابه في الليسيوم خلال السنوات الثلاث عشرة الأخيرة من حياته. لكن ثلاثة أرباع إنتاج أرسطو الفكري فقد أثناء الحروب التي أعقبت موت الاسكندر واشتعلت بين قواده أثناء صراعهم على السلطة.

بين تلك الأعمال التي فقدت، المحاورات التي كتبها على نمط محاورات أفلاطون شاباً صغيراً، وكل شيء كتبه للتوزيع على طلابه، باستثناء دراسة قصيرة عن دستور أثينا اكتشفت عام 1890 في مصر مكتوبة على ورق البردي.

عثر عن طريق المصادفة البحتة على مجموعة متنوعة من الملاحظات والمذكرات التي كان يحاضر بها في الليسيوم وكتبت في أوقات مختلفة. اكتشفت في آسيا الصغري مخبوءة تحت الأرض. وبعد قرنين من الزمن، نسيت تلك الوثائق المدفونة وأكلتها العتة والعفن والديدان. حتى زمن غزو الرومان لآسيا الصغرى، فاكتشفت ونُقلت إلى روما. حيث كان هناك عالم عرف قيمة تلك المخطوطات التي وصلت في حالة يرثى لها. ثم نقل النساخ محتوياتها وملئت الفراغات قدر المستطاع وصنّفت بحسب الموضوع.

عام 70 ق. م، نقّح أندروميكوس من رودس أعمال أرسطو هذه، وأصبحت النسخة الرسمية. تلك النسخة هي التي اتطلع عليها سيسرو في زمانه، وهي نفسها التي نستخدمها اليوم. لم نجد شيئاً أقدم من ذلك لأرسطو. ثم تختفي أعمال أرسطو ويطويها النسيان أكثر من ألف عام.

ليست هناك قصص وحكايات أكثر إثارة وتشويقاً من قصص اكتشاف علوم ومعارف قديمة ساد الاعتقاد بأنها فقدت إلى الأبد. تلك المعارف تنقسم قسمين: معارف ومفاهيم لا تتسبب بثورة كبيرة في معارفنا ومفاهيمنا، مثل مخطوطات البحر الميت وأناجيل نجع حمادي السرية، والقسم الثاني معارف ومفاهيم تمثل طفرة عظيمة في الفكر الإنساني والحضارة.

في فيلم «أوديسة الفضاء 2001» اكتشف علماء الفضاء حجراً أسود كبيراً على شكل لوحة مدفوناً في أرض القمر ويمثل رسالة من سكان كواكب أخرى إلى الإنسان، لمساعدته في الوقت المناسب على البدء في ثورة علمية جديدة تجعله قادراً على السفر والاتصال بين سكان الكواكب والأجرام الكونية.

كانت مؤلفات أرسطو لمسيحيي أوروبا في القرون الوسطى بمثابة رسالة من العوالم الأخرى لسكان الكرة الأرضية. كان لها تأثير معجز ومبهر غير مسبوق. نحو ثلاثة آلاف صفحة تغطي مساحات عريضة من العلوم والمعرفة. وأعتقد أن مؤلفات أرسطو لسكان الشرق الأوسط وبلادنا المنكوبة هي أيضا الخلاص الوحيد لحالة العته التي نعيشها اليوم. وسبب كتابتي هذه المقالات عن أرسطو. لعلّ وعسى!

تشمل أعمال أرسطو علوم البيولوجيا والفيزياء والمنطق وعلم النفس والأخلاق والفلسفة والعلوم السياسية وغيرها. هذه العلوم والمعارف تبدو كأنها أتت من حضارة سكان كوكب آخر فائق التقدم والرقي. لم تكن كتب أرسطو المكتشفة مكتوبة بلغتها الأصلية، أي اليونانية، ولم تكن مكتوبة على ألواح من الطمي أو الحجر، أو مدفونة في جرار فخارية مثل معظم الاكتشافات المهمة. إنما كانت في صورة مخطوطات باللغة العربية، موزعة بين مراكز المعرفة في ذلك الزمن: بغداد والقاهرة وتوليدو وقرطبة.

بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، وانهيار النظام في أوروبا، أضحت أعمال أرسطو وباقي الفلاسفة اليونانيين، من ممتلكات الحضارة العربية الوليدة التي حكمت منطقة الشرق الأوسط وفارس وشمال أفريقيا والأندلس، فيما كانت أوروبا تغط في سبات القرون الوسطى العميق.

ما وجدناه من بعض أعماله هو كل ما لدينا للحكم عليه، وهو كافٍ ليظهر لنا عظمة هذا الرجل وسعة مداركه التي أصبحت الأساس أو عمود الخيمة التي بنيت عليها الحضارة الغربية الحديثة التي نعرفها اليوم.

أرسطو عقل منهجي أكثر من عقل أستاذه أفلاطون. أعماله معقولة، منطقية، تعليمية، كل منها يغطي موضوعاً معيناً. على عكس أفلاطون الذي ترد معلوماته أثناء الكلام والحوار، منتقلاً من موضع إلى آخر قبل العودة إلى الموضوع الأول.

بين وثائق أرسطو هذه مواضيع: المنطق، الميتافيزيقا، الفلك، الفيزياء، البيولوجيا، الفيسيولوجيا، علم النفس، الأخلاق، السياسة، البلاغة، الشعر. وفي كل مجال يبين لنا أرسطو طرائق متقدمة واكتشافات جديدة. لا يعتمد الترغيب في الجنة والحور العين أو التخويف من النار وعذاب القبر والثعبان الأقرع لإقناعك بصحة معلوماته! لا يقول لك إذ هذه المعلومات أتته بالوحي وهبطت عليه من السماء فيما كان يتعبد في خلوته في الغار أو فوق الجبل وحيداً. إنما هي معلومات عامة للجميع، يمكن أن يحصل عليها كل راغب في المعرفة. ويمكن الوصول إلى هذه المعلومات عن طريق التجربة والمشاهدة والاستنتاج، وتلك أمور متاحة للجميع. إن قبلتها، جيّد، وإن رفضتها فهذا حقك. لا إجبار ولا قتل ولا تهديد ولا وعيد ولا تعذيب ولا بتر. فقط المطلوب استخدام قدرات عقلك وبديهتك وفطرتك السليمة.

يتميز أرسطو عن أفلاطون في كونه ابن طبيب ورث عن والده حبه للعلوم الطبيعية وقوة الملاحظة بالنسبة إلى جميع الكائنات الحية. أضف إلى ذلك أنه كان تلميذا نجيباً لأفلاطون، ورث عن أستاذه نظرة فلسفية عميقة عن العالم ككل، وعن طبائع الإنسان وقدراته.

كان أرسطو يستخدم الأسباب والمُثل والمبادئ المجردة والنظريات، مثل أفلاطون، عندما يخرج الموضوع على نطاق التجربة والمشاهدة. لكنه كان في الوقت نفسع، حريصاً على تعديل أيّ نظرية تثبت التجربة عدم صحتها. كان مفكراً عظيماً صادقاً، وفي الوقت ذاته عالماً تجريبياً رائعاً. كان يقول، توخياً للدقة في بعض الحالات، إن نتائج هذه التجارب ليست كافية للوصول إلى النظرية الصحيحة. وإذا ثبت مستقبلاً بالتجربة عكس ذلك فلا بد من تعديل النظرية. لا قداسة ولا تعصب في البحث عن الحقيقة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى