الإمام موسى الصدر… أتملّاه حيران مدهوشاً!

صادق النابلسي

خطا الإمام الصدر ببسالة جهة الساحة اللبنانية ليرسم ملامح طائفةٍ كانت تقف عند ضيق العيش وضآلة الأمل وعسف التاريخ. التاريخ الذي لم يضع الشيعة في حسبانه ككتلة مرئية وذي أهمية، بل كأقلية يستقرّ في روعها شعور مذلّ بالإقصاء، ولا توكيد اجتماعياً ودينياً وثقافياً لذاتها. كان النضال من أجل الإحساس بالكرامة الإنسانية والهوية الوطنية والدخول إلى نادي الطوائف الرسمية ونيل الاعتراف المتكافئ يمرّ عبر سلسلة طويلة من الاستعصاءات والصعوبات العضوية التي سعى الإمام الصدر منذ اقتحامه الساحة اللبنانية إلى تحقيقها من خلال توفير رؤية أيديولوجية تساهم على نحو سريع، في إفراز وتكوين واقع جديد، سواء على الصعيد الداخلي للطائفة أو على الصعيد الوطني العام.

وعلى الرغم من إثارته زوابع سياسية وفكرية بفعل خطابه التغييري والمجالات التي دخلها، إلا أنّ محورية مواقفه وحركته كانت منصبّة على تقديم أطروحات لمعالجة الأزمات اللبنانية المتشعّبة على أهواء ومصالح العديد من دول العالم. وكانت محصلة جهوده المتراكمة أن حمل الإمام قضايا طائفته من العتمة والإغماض إلى الضوء والعلانية، فيما أتاح له حضوره الفاعل مزيداً من النفوذ والسيطرة على أرض لما تزل بكراً، وتمكّن بجهد منهجي من امتلاك قلوب الجماهير وجذبها إليه من خلال خطاب يتسم بالعقلانية والموضوعية والروحانية والثورية في آن معاً، وهو الأمر الذي عزز من أهميته كشخصية قيادية فذّة نجحت في اكتشاف الآليات والوسائل الكفيلة بتطوير الطائفة الشيعية، وفي الانخراط الشامل في جهود إصلاح الدولة والدفاع عن الكيان اللبناني ككيان نهائي لجميع أبنائه.

إنّ التحولات العميقة التي قفزت بالطائفة إلى أطوار تصاعدية وتكاملية هي بكلّ إنصاف من صنع رجل تاريخي اسمه الإمام موسى الصدر، الذي توصّل في فترة وجيزة عقدين إلى تغيير الظروف التاريخية للطائفة، وسمح لها أن تطاول خلال هذا الوقت القصير أهدافاً كانت تستلزم جهوداً جبارة وأزماناً طويلة. ومَن رصد وراقب حركة الإمام وجد أنّه كان يتحرك على الساحة اللبنانية بفعل دافعين قويّين: الأول، الرغبة بالاعتراف العلني بالطائفة الشيعية كياناً وذاتاً، وجوداً وحضوراً، وبكوْن الشيعة أشخاصاً فاعلين ومسؤولين تتمتع أفعالهم وآمالهم وأفكارهم بالقيمة والأهمية. والثاني، الرغبة في بناء دولة حديثة تعمل على رفع فاعلية النظام لجهة فتح الطريق أمام المشاركة السياسية، وتبديد التدابير التمييزية والميول التدميرية للعيش المشترك.

لا شك أنّ مَن يدرس الصدر سيكتشف سريعاً أنّه شخصٌ حادّ الذكاء واسع الثقافة والمعرفة والأفق، وقد نجح في فهم الإشكالية التاريخية للطائفة الشيعية تكونّاً ومساراً ومستقرّاً، وما يفضي إلى انخراطها في مجهودات الاستقرار والنظام مع بقية الطوائف. ومهما كانت الاعتراضات على حركته فإنّه لا ريب شكّلت أفكاره وأدواره هزات عنيفة لواقع راكد انطوى على تقاليده وعاداته وعمل لحمايتها وحراستها من أي مسّ أو تبديل.

في كلّ عام، حينما تطلّ ذكراه بلا مبسمه الجميل أتحسّب بؤس وطن ليس هو درّته. وأجد أنّ الشعب الذي لا يقدّر أبطاله المخلصين وينساهم سريعاً فهو لا ريب مليء بالخنافس والإمعات والمدّعين. عندما يهيج صدري أواراً كلما ذكر أحدهم اسم موسى الصدر أمامي يمضي بيَ الحنين إليه صوب الغد الذي هو الحلم، لا إلى الماضي الذي يتحيّز في حوض الأشواق فقط. القدر وحده هو الذي حملني على بساطه فتعرّفت إلى هذا الرجل المتألّه والبشري والعاشق والمناضل والمفكر والثائر والطليق أبداً رغم أصفاد السجون.

كان سهلاً عليّ أنّ أحبّه لكن كان صعباً عليّ أن أكتشفه. وأنا صمّمت منذ البداية أن لا أحزر هذا الرجل، وأكتفيت من حظي أن أتملّاه حيران مدهوشاً ما دمت قادراً على الخيال والحب. موسى الصدر القليل من ذكراه كثير من مستقبلنا وآمالنا التي لا تموت. فلنتذكّره حتى لا نموت!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى