«حنظلة» سيظلّ طفلاً في العاشرة حتى يعود إلى «الشجرة»!

نصار إبراهيم

«إذا أردتم أن تعرفوا مدى كراهية العرب لأميركا تصفّحوا رسومات ناجي العلي» نيويورك تايمز

عندما تهيّأت للكتابة عن ناجي العلي، غمرتني موجة من مشاعر الرهبة والشجن والحنين، فناجي بالنسبة لي يقيم هناك قريباً من القلب والروح، في تلك الزاوية الصغيرة المخصصة لكلّ ما هو مقدّس، وعادة ما يكون المقدّس هو أكثر الأشخاص والأشياء والأحداث وضوحاً وبساطة وصدقاً. زيارة ناجي في هذه الأيام ومحاورته، أو الجلوس في حضرته – ولو بصمت- يأخذ معنى الكشف، فوجدتني أقف أمامه حائراً مرتبكاً وصامتاً، كنت أخشى أن يدير «حنظلة» ظهره لي، لكن الفتى الفلسطيني المشاكس إلى درجة المستحيل كان يضجّ بالحياة والرهافة والقدرة على العتاب والمسامحة في آن. قلت: إنها ذكرى استشهادك وأريد أن أكتب شيئاً عنك!

سرح بنظره وروحه بعيداً، فساد الصمت إلاّ من حفيف أجنحة الفراشات وكأنها آتية من بعيد، من بين أشجار الصبّار والتين المنسية حول دروب قرية الشجرة في أعالي الجليل.

غمرني بنظرة شاملة وقال: دعني أهوّن عليك، سأقدم نفسي كما أريد، وسيكون ذلك باللونين الأبيض والأسود، فأنا أعرفكم أيها الكتاب، إنكم تميلون إلى الألوان المبهرجة، إلى الدرجة التي لا يعود الإنسان معها قادراً على التمييز بين التخوم، بين الصورة والأصل… بين الواقع والخيال… وبعد ذلك سأترك لك المجال لتضيف ما تشاء. بدأ ناجي العلي الحديث:

«اسمي ناجي العلي، ولدت حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة، في قرية الشجرة بالجليل عام 1936، أخرجوني من هناك بعد عشر سنوات، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان… أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظلّ والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً، لم يخرجها كلّ ما رأيته بعد ذلك. أرسم… لا أكتب أحجية، لا أحرق البخور، ولكنني أرسم، وإذا قيل إنّ ريشتي مبضع جرّاح، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه… كما أنني لست مهرّجاً، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود… ثقيلة… ولكنها تكفي لتمنحني مبرّراً لأن أحيا. متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها… أنا لست محايداً، أنا منحاز إلى من هم «تحت»… الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز إلى من ينامون في مصر بين قبور الموتى، وإلى من يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، وإلى من يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح الآتي من مخبئها، وإلى من يقرأون كتاب الوطن في المخيمات. كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين، حفاة الأقدام، إلى «عين الحلوة»، كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون… الدول العربية… الإنجليز… المؤامرة… كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم، ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق، ألتقط الحزن بعيون أهلي، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدران المخيم… حيثما وجدت مساحة شاغرة… حفراً أو بالطباشير. وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية… ثم إلى الأوراق. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة» الحرية» وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من «الحرية» وفيها رسوماتي.. شجعني هذا كثيراً.

… أريد أن أؤذن في آذان الناس وأقول لهم أين قضيتهم، وإلى أين وصلت؟ أريد أن أرسم للناس البسطاء الذين يفكّون الحرف والذين لا يقرأون ولا يكتبون». أنهى ناجي حديثه وصمت قليلاً… ثم نظر في عينيّ مباشرة كما ينظر أيّ إنسان صادق مستقيم وشجاع، وقال مبتسماً: الآن وبعد أن حدّدت أسس وحدود الإطار سأترك لك الفرصة لتكتب ما تريد… مع الاحتفاظ طبعاً بحق التدخل عندما أجد ذلك ضرورياً…

هذا هو ناجي سليم حسين العلي… تذكروا هذا الاسم جيداً… إنه الفنان الفلسطيني الذي نجح وبامتياز في إشعال الذاكرة وصياغة الوعي الفلسطيني بجمالياته العميقة. هو الفتى الفلسطيني ذو الشعر الأجعد والقامة الشامخة، الفتى الذي أدار ظهره للعالم بعد أن اكتشف أنه مغمور بالكذب والنفاق، العالم الذي وقف مكتوف الأيدي يتفرّج على عصابات الموت وهي تقتلع طفلاً فلسطينياً لم يتجاوز العاشرة من عمره وتلقي به على دروب البؤس والتشرّد والضياع… وتركه يغوص مع طفولته في أوحال المخيم شتاء، وفي غباره وقيظه صيفاً… فاكتشفت عيون ذاك الطفل باكراً أنّ: هذا العالم ليس لنا!

ومن أعماق المأساة والنكبة… نفض الطفل الغبار عن رموشه وامتشق طبشورته وراح يخربش عواطفه وأحلامه، فكانت عواطف وأحلام وذاكرة شعب بكامله، بل عواطف الإنسانية كلها…

لم يكن بحاجة لأيّ لون، فالمأساة كانت هائلة ومروّعة إلى الدرجة التي لم يكن يحتاج معها إلى أيّ لون… فقط الأسود والابيض. كانت تلك أيام ولادة الوعي الذي لا يساوم على البديهيات…

فالمعادلة بسيطة وحارقة: أن تكون حراً أو لا تكون، أن تكون إنساناً أو لا تكون، أن تكون مع فلسطين أو لا تكون… لم يكن ناجي العلي يقبل بثلاثة أرباع الحلول، أو أنصافها أو أرباعها…

وكيف يمكن أن يقبل، وهو الفتى الذي فقد طفولته، أشجاره، أعشاش عصافيره، شجره الصنوبر الخاصة به، شجرة اللوز، شجرة التين… وموطئ قدمه الأول، وأفقه الذي تفتحت عيناه عليه لأول مرّة… كيف يساوم، وهل بقي أصلاً ما يساوم عليه سوى ذاته، كرامته، ذاكرته، واسمه…؟ ولهذا كان يصرّ:

«اسمي ناجي العلي من قرية الشجرة» لقد كان بإصراره ذاك يعيد بناء الأشياء والعلاقات وتأكيدها،

ولأنه انسحق إلى هذا المستوى… فقد حدّد موقعه وموقفه منذ اللحظة الأولى:

«أنا لست حيادياً، أنا مع الـ»تحت»، مع أولئك الفقراء البسطاء الذين يكونون دائماً عند خط الواجب الأول، أولئك الذين يسكنون تحت سقف الفقر الواطي ولكنهم يقفون عند خط المعركة والكرامة العالي.

كان الخيار صارماً وواضحاً حتى النهاية، ولهذا كانت ولادة حنظلة ولادة طبيعية في زمن الحروب القيصرية، يقول: «ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظلّ دائماً في العاشرة، ففي ذلك السنّ غادرت الوطن وحين يعود حنظلة سيكون بعد في العاشرة ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك… قوانين الطبيعة المعروفة لا تطبّق عليه، إنه استثناء… لأنّ فقدان الوطن استثناء وستصبح الأمور طبيعية حين يعود إلى الوطن… قدّمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية… قدّمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطوّر وعيه أصبح له أفق كوني وإنساني. أما عن سبب إدارة ظهره إلى القراء، فتلك قصة تروى، في المراحل الأولى رسمته ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس وكان يحمل الكلاشينكوف وكان أيضاً دائم الحركة وفاعلاً وله دور حقيقي… يناقش باللغة العربية والإنجليزية بل أكثر من ذلك، فقد كان يلعب الكراتيه، يغنّي الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة…

إنّ شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة روحي من السقوط كلما شعرت بشيء من التكاسل، إنه كالبوصلة بالنسبة لي وهذه البوصلة تشير دائماً إلى فلسطين».

يا الله يا ناجي العلي، كم كنت نبياً… وكنت ضميراً… ولهذا لم يكن أمراً غير عادي، أن يبدأ قراء جريدة «السفير» بقراءتها كلّ صباح من الصفحة الأخيرة حيث يكونون مع الموعد الصباحي لرسوماتك، ليعرفوا أين سيقفون في ذلك اليوم، وأين يجب أن يضعوا أقدامهم هذا النهار…

كانوا يبدأون صباحاتهم برسوماتك… كانوا… وكنّا نريد أن نعرف ما هو موقف فاطمة وعلي في هذا اليوم… وما الذي يخبّئه حنظلة من مبادرات في مواجهة أصحاب الكروش والأقفية السمينة..

تشامخ ناجي… وراح يصعد الجلجلة حاملاً آلامه وآماله وطموحاته.

غادر ثقافة القبيلة والطائفة، كان فلسطينياً عربياً إنساناً… كان حنظلة ينجح دائماً في جمع كلّ الفقراء والمضطهدين والمقهورين حوله: مسلمين، مسيحيين، شيعة، سنة، دروز، عرب، أكراد، موارنة، أرثوذكس… ألم يسأل أحدهم يوماً حنظلة: أنت مسلم أم مسيحي، سني أم شيعي، روم أرثوذوكس أم روم كاثوليك…؟

فيجيبه: أنا عربي يا جحش!

ناجي، إنني أعتذر منك وأمامك… فقد غادرتنا وأنت تحلم… لقد غادرتنا على عجل…

في يوم الأربعاء بتاريخ 22 تموز 1987 وفي شارع إيفر في لندن… تقدم قاتل سفيه ومأجور وأطلق الرصاص على ناجي العلي من مسدس كاتم للصوت… قاوم حنظلة الموت حتى 29 آب 1987… وأخيراً قرّر الرحيل…

أيّ قاتل هذا الذي أطلق الرصاص على طفل فلسطيني يصرّ أن يبقى في العاشرة من عمره… طفل يعتقد ويؤمن بأنّ حياته قد تجمّدت وتوقفت عند تلك اللحظة البائسة التي تخطت فيها قدماه حدود فلسطين نحو بؤس المنافي وقهرها.

ولكن تلك هي ضريبة الوضوح والشرف العالي أيها الصديق…

لم يحتمل ناجي أشباه الساسة، أشباه الثوار، أشباه الرجال، أشباه الأنظمة، وأشباه القادة وأشباه الزعماء… كانوا يرتجفون أمام الطفل المشاكس حنظلة بملابسه الممزقة والمرقعة… كانوا يخافونه وهو مجرّد رسم على الورق…

لأنّ ذلك الفتى الفلسطيني المتمرّد كان يذكرهم بعجزهم، تآمرهم، خياناتهم، وجبنهم، والأخطر أنه كان دائماً يحرّض على النهوض والمقاومة… كانوا أحياناً يقطعون يده، ومع ذلك كانت في اليوم التالي تورق غصنا من ثورة… كانوا يكمّمون فمه، فكان يركل بقدميه، وعندما كانوا يهدّدونه كان يشير لهم بيده إشارة بذيئة أو يبول على نصائحهم بكلّ طفولة ماكرة…

لماذا يا حنظلة كلّ هذا العناد؟!

فيجيب: وماذا سأخسر، ملابسي المرقعة، أقدامي العارية، لقد جعلوني أخسر كلّ شيء… فلماذا أحترمهم!

لا أملك سوى لساني، يدي، قدمي، كوفيتي… لم يبق شيء… أضاعوا فلسطين وأضاعوني… ومع ذلك ما زالوا يكذبون… يواصلون خياراتهم ومساوماتهم البائسة وواقعيتهم الهابطة ويريدونني أن أصمت! يساومون عليّ ويريدونني أن أبقى مكتوف اليدين… هذا مستحيل!

نعم، هكذا أنت يا ناجي… ولهذا كنت ثقيلاً عليهم أيّا كانوا… كنت الناطق الرسمي باسم اللاجئين والفقراء الذين يفترشون تراب الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.

لقد دفع ناجي العلي ثمن مبادئه، كان يعرف هذا جيداً منذ اللحظة الأولى، ولهذا يقول: «اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي»! لقد مضى ناجي على ذات الطريق الصعبة الواضحة التي سار عليها من قبل صديقه الذي التقط رسوماته لأول مرة غسان كنفاني. لقد ولدا في ذات العام 1936، وفي 8 تموز 1972 تم اغتيال غسان كنفاني، وبعد خمسة عشر عاماً تم اغتيال ناجي العلي… يقول غسان: «هناك رجال ينبتون الآن في أرض المسؤولية كما ينبت الشجر في الأرض الطيبة، حريصون على إعادة المجد للكلمة»…

ولأنه كان وفياً لما يكتب كان يجب أن يصمت…

ولذات السبب كان يجب إسكات ناجي، كان يجب اغتيال حنظلة لأنه يرفض الصمت والسكوت…

والآن… يطلّ علينا ناجي من مكان ما… يمسح واقعنا ومأساتنا بنظرته الباهرة… فماذا يمكن أن يقول يا ترى؟!

أي حزن شاسع سينفجر في أعماقه… هل هذا ما تعلّمناه… أن يستدير الفلسطينيون، أن يصطفوا وراء المتاريس المتقابلة… أن يطلقوا النار في الاتجاه الخاطئ…

على أي شيء يقتتل شعب اللجوء… آه يا شوارع مخيماتنا المغمورة بالصور… صور نسي بعضنا لماذا لا زالت تملأ جدران المدن والمخيمات.

نحن بحاجة إليك الآن يا ناجي لتعيد تذكيرنا ببديهيات الوطن، أن تعيدنا إلى بديهية الوضوح… أن تمسك طباشيرك وتعيد التأكيد على حدود فلسطين، أن تضربنا على أيدينا بقلمك كلما حدنا عن الدرب… أن ترسل حنظلة المشاكس ليعيد توحيدنا، لقد اشتقنا إلى أقدامه العارية وملابسه الممزقة، ولكننا اشتقنا أكثر لصراحته الجارحة.

لم يكن ناجي العلي يحب اللون الرمادي، ومع ذلك كان يرتقي بمأساتنا وألمنا إلى حدّ الانفجار بالضحك المرّ، حاولوا رشوته، الضحك عليه، تحويله إلى مثقف سلطة أو مثقف في صالات الفنادق الفاخرة، لكنه كان يكره البنايات المرتفعة، لأنه ابن الأرض وأزقة المخيم، كان وبقي وفياً للفتى الفلسطيني، ابن العاشرة، الذي لا زال يركض حافي القدمين في أزقة المخيم ويشاكس العالم!

ومع ذلك… ها أطفالك يا ناجي قد كبروا… وهم يعيدون اليوم كتابة الواقع والتاريخ… بذات الوضوح وذات الحدة التي تعلّموها من أستاذهم العنيد حنظلة… هم ذاتهم يركضون بذات الكوفية وذات الراية، راية فلسطين… في غزة والضفة والقدس والجليل وفي مخيمات المنافي القريبة والبعيدة. أما فاطمة تلك الفلسطينية واسعة العينين، المرأة الجميلة التي تعلّمنا الحب والحياة بكلّ بساطة… فهي تجلس الآن على ركام منزلها، يدها تحضن خدها القمحي… وترسل نظرها… نحو أفق بعيد..علّ طائر الوعد أو الرعد يأتي… تواصل انتظارها وعشقها، وخلف رموشها الطويلة تغيم خارطة فلسطين الوطن في بحر من الدموع… والآن اسمحوا لي أن أجمع أوراقي وأنهض، يخيل إليّ أنّ ناجي العلي يجلس الآن فوق ضريحه الرخامي ويراقبني، أتمنى… أتمنى أن لا يدير ظهره لنا، وأن لا يقوم حنظلة بحركة فاضحة!

صفحة الكاتب: https://www.facebook.com/pages/Nassar-Ibrahim/267544203407374

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى