العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية» تصل إلى مرحلة المحاسبة ١

كتب دايفيد روثكوبف

عندما يرتبط الأمر بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يكون مارتن إنديك كمن تضعه تحت المجهر. فبعد أن أمضى ثلاثة عقود ونصف العقد في قيادة سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، أضحى إنديك الإنكليزي المولد والأستراليّ النشأة، حساساً للغاية إزاء التحوّلات والخضّات والاضطرابات التي شهدها الشرق الأوسط. شغل إنديك منصب سفير الولايات المتحدة في «إسرائيل» لمرحلتين، وهو مساعد أميركيّ سابق لوزير الخاجية لشؤون الشرق الأدنى، ولعب في الآونة الأخيرة دور المبعوث الأميركي في المفاوضات «الإسرائيلية» ـ الفلسطينية، وبقي يشغل منصب مستشار وزير الخارجية الأميركية جون كيري في هذه القضايا.

استقال إنديك من دور المفاوض منذ فترة قصيرة، عندما قرّر رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما أنّ الوقت قد حان لإعلان توقّف مسار مفاوضات السلام المتعثّرة. ونظراً إلى دوره المحوري في تفعيل مسار المفاوضات بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين وجيرانهم، ووزير الخارجية جون كيري وفريق الولايات المتحدة، فإن إنديك هو الأفضل لناحية قول ما يجب أن يُقال، وما الذي أصبح من الماضي لا يُعوّل عليه، وما الذي يمكن أن يعمل الأطراف على تطويره في الصراع الذي يمزّق المنطقة.

يؤمن إنديك بأنّ تغيّرات كثيرة قد تموضعت في المشهد، غير أنّ المشكلة تكمن في القادة «الإسرائيليين» ونظرائهم الفلسطينيين الذين لا يؤمنون بإمكانية حلّ الدولتين، بل يركّزون جهودهم على منح المواطنين «الإسرائيليين» كامل حقوقهم. ويرى أنّ القادة «الإسرائيليين» لا يعترفون بالتحوّلات غير القابلة للإصلاح على مرّ الأجيال، والتي عملت على تغيير العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية». وقد أصبحت «إسرائيل» في نظره أقلّ اعتماداً ـ بشكل تدريجيّ ـ على الولايات المتحدة، وتشجّع على وضع أسس جديدة من التحالفات العالمية التي قد تكون نتائجها مهمة لقراءة كيفية ممارساتها في السنوات المقبلة. وهناك احتمال كبير أن تنتج معركة «إسرائيل» مع حماس، خلق تحالفات غير متوقعة مع جيرانها العرب بهدف سحق المسلّحين المتطرّفين، بدل التفاوض وعقد الصفقات التي سبق واعتدنا عليها.

وانطلاقاً من الأحداث الأخيرة التي تسيطر على المنطقة، والتي تهدّد بزلزال استراتيجي، حاورت مجلة «Foreign Policy» والمحرّر دايفيد روثكوبف، مارتن إنديك الذي سيُدلي بالكثير ممّا لا يستطيعه غيره.

كيف انعكس أثر ما حدث في غزّة على مسار مفاوضات السلام؟

– أعتقد أنها أصبحت أصعب من قبل، لأنها عمّقت الكراهية بين الطرفين. ينظر «الإسرائيليون» إلى ما حصل في غزّة ويقولون: «لن نسمح بحدوث أمر مماثل في الضفة الغربية». وهناك اليوم ما يؤكد أنّ «إسرائيل» تخطّط للبقاء في الضفة الغربية خوفاً من إمكانية حفر أنفاق تمكّن الفلسطينيين من الوصول إلى تلّ أبيب، إذ ستسيطر حماس وتهدّد بصواريخها مطار «بن غوريون»، ما يشعل كارثة حقيقية في عمق «إسرائيل». لكن هناك أجوبة أمنية لكلّ ما سبق ذكره، غير أنّني أعتقد أنّ الرأي العام «الإسرائيلي» سيكون أكثر قلقاً حيال أيّ تفكير يرتبط بانسحاب «إسرائيل» من الضفة الغربية. بينما سيكون الرأي العام الفلسطيني ـ في الوقت عينه ـ أكثر تمسّكاً بضرورة إنهاء الاحتلال، أي الانسحاب العسكري «الإسرائيلي» الكامل من الضفة. أمّا بالنسبة إلى مسار مفاوضات السلام، فهي لا تحمل أيّ مصداقية للطرفين، إلّا إذا وُضع تاريخ محدّد لإنهاء الاحتلال، وهذا ما سيرفضه الرأي العام «الإسرائيلي» لأنه سيعني انسحاباً كاملاً للقوات العسكرية المسلّحة.

إذاً، خلف كلّ هذا العداء المستشري، دقّت حرب غزّة الأخيرة مسماراً آخر في نعش حلّ الدولتين.

أما من الناحية الإيجابية، فقد اكتسب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعض المصداقية بعد تعاونه مع الاستخبارات «الإسرائيلية»، والذي هدف إلى منع نشوب انتفاضة ثالثة في الضفة خلال الحرب على غزّة. لكن مهما يكن ما كسبه أبو مازن من «الإسرائيليين»، فإنه ـ من دون شك ـ خسر الكثير من الجانب الفلسطيني، الذي يرى أنّ حماس تقاوم «إسرائيل»، وأنّ «داعش» يستعمل العنف لبسط سيطرته في العراق، وكلّ ما يستطيع أن يقدّمه عباس لا يزيد عن بعض المفاوضات للاعتراف بالدولة الفلسطينية. مفاوضات خسرت كلّ مصداقيتها، وأضحت أكثر صعوبة بعد مضيّ عشرين سنة على أوسلو، وتوطين أكثر من 300.000 «إسرائيلي» في الضفة. ويرزح أبو مازن حالياً تحت مطالب الشعب الذي يهدّد ـ في حال عدم استجابة الأخير لمطالبته إياه بالذهاب إلى مفاوضات أحادية والضغط لإعلان قيام الدولة الفلسطينية ـ بتأليب الشارع «الإسرائيلي». وفي المقابل، برزت أزمة حقيقية تتمثّل في رئيس الوزراء «الإسرائيلي» المنكفئة شعبيته سياسياً. إنها مجدّداً مشكلة عدم الثقة بين الشعب والقائد، والتي بدأت مفاعيلها تظهر إلى العلن بعد الحرب على غزّة.

فلْنتحدث عن السيناريو المحتمل بعدما أظهرت الاستطلاعات الأخيرة ضعف نتنياهو والتراجع عن تأييده بعد الحرب على غزّة.

– أظهر آخر استطلاع للرأي قبل الحرب على غزّة تأييداً لنتنياهو بلغت نسبته 82 في المئة. لكنّ مشاعر الشعب «الإسرائيلي» كانت في غالبيتها تتطلّع إلى الإطاحة بحماس، الاستيلاء على غزّة، وتسليمها إلى السلطة الفلسطينية. أراد الشعب تحقيق النصر، لكن وقف إطلاق النار الذي حصل لا يمكن عدّه نصراً «إسرائيلياً» محتملاً. وإذا كانت الحرب لم تحقّق لـ«الإسرائيليين» ما أرادوه، بل أصبح يتوجّب عليهم الاختباء في الملاجئ مع كلّ قصف صواريخ باتجاه مناطقهم السكنية، فإنهم بلا شك سيلومون قائدهم لفشله في تحقيق ما أرادوه منه. أظهرت إحدى المحطات التفزيونية الإثنين الماضي استطلاعاً للرأي يؤكد تراجعاً، وُصف بالدراماتيكي لشعبية نتنياهو، بلغ 38 في المئة، ما يؤكّد توقّعات إنديك قبل أيام قليلة فقط . كلّ هذا يترك الرأي العام «الإسرائيلي» غير راضٍ عمّا آلت إليه الأمور. وستنعكس هذه النتائج على انكماش محتمل في الاقتصاد «الإسرائيلي»، قد يصل حدّ الركود. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ «إسرائيل» نهضت متعافية من كبوة الركود الاقتصادي العالمي عام 2008، بفضل جهود نتنياهو وستانلي فيشر الحاكم السابق للمصرف المركزي «الإسرائيلي». ما أدّى إلى انتعاش حياة «إسرائيليين» كثيرين منذ ذلك الحين، بعد استقرار ملحوظ في الأمن والتصدّي للإرهاب بمساعدة أجهزة استخبارات أبي مازن، على رغم الانفجار المحيط بالمنطقة. لكن ملامح بطء النمو الاقتصادي بدأت تتجلّى قبل الحرب على غزّة، في مؤشرات عدّة منها الانخفاض الملحوظ في نسبة السياحة. ما دفع بنتنياهو إلى قضاء معظم وقته في السنوات الأربعة الماضية في مكتبه، سعياً إلى حلّ مشاكل أمنية واقتصادية كثيرة عالقة. فهو سيواجه ـ من دون شكّ ـ مزيداً من السخط الشعبي.

حسناً، لكن يبدو أنّ التهديد بإطلاق الصواريخ والردّ من قبل «إسرائيل» سيبقى قائماً، فهل ما تقوله يعني أنّ حماس قادرة فعلاً على فرض عقوبات اقتصادية على «إسرائيل»؟

– من المبكر البتّ في هذه المسألة، لكن يمكن القول إنّه إذا ازداد العنف الذي سيمنع من تطوّر معدّلات السياحة والاستثمار في «إسرائيل»، قد تكون محقاً في طرحك هذا. عرفت «إسرائيل» أزمات كهذه في الماضي ونجحت في تخطّيها. لا يمكن التكهّن في مدى قدرة حماس على تحمّل كل هذه الخسارات. لكن ما جرى إلى الآن يثبت العكس تماماً.

كيف تقرأ تأثير ما حصل في غزّة على العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية»؟

– إنّه تأثير سلبيّ جداً. تشهد هذه العلاقات بعض التمزّق حالياً. فالعلاقة الشخصية بين الرئيسين أوباما ونتنياهو لم تكن على ما يُرام منذ فترة، وما لبثت الأمور أن أصبحت أكثر تعقيداً. وما يقوله البعض بشأن الاقتصاد الأميركي حقيقيّ أيضاً. فالمعطيات الأساسية قوية. إذ إنّ دعم الكونغرس وتأييده للإثنين لا يُستهان بهما. وقد شهدت العلاقات الأمنية والاستخباراتية تعاوناً وتطوّراً بين الفريقين إلى درجة عميقة وبعيدة. لكن على المهتمين بهذه العلاقة أن يزيدوا من اهتمامهم وقلقهم ـ كما أفعل أنا. فقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة التي شملت أفراداً يافعين دعماً أقلّ بكثير لـ«إسرائيل». كذلك أظهرت استطلاعات أخرى ـ شملت الحزبيين الديمقراطيين ـ تحوّلات وتراجعاً في الدعم السياسي، بينما بقي الجمهوريون على النهج نفسه نظراً إلى تاريخهم الطويل في دعم «إسرائيل» وتأييدها.

إذا استمرّت هذه التوجّهات على ما هي عليه ـ وأتوقع أن تتفاقم بعد أزمة غزّة، والتي تتزامن مع ازدياد طرح الأسئلة الأخلاقية والإنسانية المطروحة ـ ستجد «إسرائيل» نفسها مع الوقت في وضعٍ يختلف كثيراً عمّا اعتادت أن تختبره قبلاً. فإذا تحوّلت القضية «الإسرائيلية» إلى مسألة حزبية في السياسة الأميركية، سينتج ذلك ضعفاً وخللاً في العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية». وإذا كان الجيل الجديد أقلّ دعماً لـ«إسرائيل» من الحالي، وهذا ما أتوقّعه خصوصاً بين اليهود الأميركيين، فإن هذا سيؤدّي إلى تآكل تدريجيّ في الأسس التي تحكم العلاقات بين البلدين مع مرور الزمن.

أعتقد أنه ينبغي استشعار جرس الخطر الذي بدأت صفاراته تدوّي في كلّ اتجاه.

حوارٌ خاص مع المبعوث الأميركي السابق الخاص مارتن إنديك حول حلفاء «إسرائيل» الجدد، انفجار غزّة، وانكفاء واشنطن بعد انهيار محادثات السلام.

ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى