مغامرة السرد الروائيّ تجذب المرأة أكثر من الشعر المرتبط عربيّاً بمفهوم الذكورة

كتب مفيد نجم

ظاهرة لافتة في المشهد الإبداعي للكاتبات العربيات تتمثل في اجتذاب مغامرة السرد الروائي العديدات منهن، يقابلها تراجع مساحة حضور المرأة شعرياً وانحسارها في المشهد الشعري العربي الراهن، ما يستدعي البحث والتقصي عن أسباب هذه الظاهرة.

يذهب البعض في محاولة تفسير الظاهرة إلى ربطها بظاهرة تراجع حضور الشعر عن المكانة التي كان يحتلّها باعتباره ديوان العرب لمصلحة الرواية التي استطاعت أن تنتزع منه هذه المكانة وتتربع على عرشها. هذه الظاهرة عامة، تشترك فيها الكاتبات مع الكتاب العرب، فالعديد من الشعراء العرب المعروفين تحولوا إلى كتابة الرواية، في حين لم نجد في المقابل روائيات يتحولن من كتابة الرواية إلى كتابة الشعر.

تعيدنا هذه الظاهرة إلى جذرها الأول الكامن في مرويات «ألف ليلة وليلة» الحكائية وبطلتها شهرزاد التي لم تسكت عن الكلام المباح إلا لتبدأ في اليوم التالي حكاية جديدة، ما يدل على تأصل علاقة المرأة تاريخياً بالوظيفة الحكائية وتفوقها في هذه الوظيفة التي استطاعت من خلالها أن تنقذ حياتها من الموت. وبغض النظر عن الدلالة الرمزية للدافع الذي جعل هذه الوظيفة منوطة بشخصية أنثى هي شهرزاد، انطلاقاً مما ترمز إليه المرأة من قدرة على التوالد والإخصاب، فإن تفرّد امرأة ببطولة تلك الحكايات وتفوّقها في ذلك لم يكن مرتبطاً بالبعد الرمزي الذي تنطوي عليه وظيفة المرأة في الحياة فحسب، بل يتعدّاها إلى علاقته بشخصية المرأة ومخيّلتها الإبداعية الولاّدة في هذا المجال، خاصة أن تلك الحكايات التي نعرف أنها مجهولة المؤلف أو المؤلفين تمّ تناقلها وتدوينها من قبل الرجال.

وظيفة الحكي لم تنته مع شهرزاد، بل تواصلت عبر حكايات الجدات التي عرفتها الثقافات الإنسانية الشفوية جميعاً، ولا تزال حاضرة إلى اليوم في حياة الأطفال. هذه السيرورة التاريخية لوظيفة الحكي لدى المرأة تدل على أن ثمة ارتباطا بينها وبين هذه الوظيفة، على عكس ما هي الحال لدى الرجل، فما هي الأسباب؟

يتحدث العلماء عن وجود عدد كبير من الخلايا الدماغية المسؤولة عن الحكي لدى المرأة، وهذا العدد يفوق كثيراً ما لدى الرجل من تلك الخلايا، ما يفسر حاجة المرأة إلى الحكي والثرثرة أكثر من الرجل. فهل تكون السيولة والخصوبة في الحكي المتدفق من اختصاص مخيلة المرأة، في حين أن السرد الحكائي القائم على أسس ومعايير وضوابط محددة هو من اختصاص الرجل الكاتب؟

هذا السؤال الذي قد يكون مشروعاً تحاول المرأة الكاتبة أن تجيب عنه بالنفي من خلال منجزها السردي الذي لا يقل أهمية عما يكتبه الرجل، ما يعني أن مخيلة السردي الحكائي لدى المرأة لا تختلف في هذا المجال عن مخيلة الرجل- الكاتب، متى أتيحت للمرأة فرصة الكتابة وحرية الإبداع. ومع أن هذه القضية استطاعت الكاتبة الروائية أن تحسمها وتردم الفجوة التي كانت قائمة بينها وبين الكاتب الروائي لأسباب اجتماعية وتاريخية معروفة، إلاّ أن الوعي النسوي الذي برز مع ظهور الحركة النسوية وتعابيرها الأدبية والنقدية أعاد طرح المسألة، لكن من زاوية مختلفة هي زاوية وعي الأنثى لذاتها وتعبيرها عنها، على النحو الذي يسمح لوجودها بالتعبير عن نفسه، سواء من خلال اللغة أو الكتابة.

هذا الوعي الأنثوي طرحته الحركة الأدبية والنقدية النسوية إذ اعتبرت أن الخضوع لأشكال الكتابة الإبداعية السائدة هو تسليم بالمرجعية الذكورية وخضوع لشروطها، ما يعني طمس هوية المرأة وإلغاء دورها ووجودها داخل اللغة والأدب، بعدما هيمن الرجل على اللغة والأدب بحكم الثقافة الأبوية السائدة تاريخياً التي كرست هذا الوضع ولا تزال تحاول تأبيده وإخضاع المرأة لشروطه وقيمه ومفاهيمه.

خارج إطار الكاتبات النسوية ظلت الكاتبات العربيات يبدعن من داخل أشكال الكتابة السائدة، باعتبار أن الأدب لا جنس له ولا علاقة بينه وبين جنس كاتبه. في حين لم تتبلور صورة واضحة للأدب الخاص بالمرأة، وما زال الجدال مفتوحا حول طبيعة الكتابة النسوية وعلاماتها الخاصة بها جمالياً. لم تتوقف المرأة الكاتبة عن الكشف عن قدرتها على الإبداع السردي الحكائي ومنافسة الرجل- الكاتب في هذا المجال، ويعبر عن ذلك حجم المشاركة النسوية في الكتابة الروائية رغم وضعها المكبل، فهي لا تزال تعيشه في الواقع، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة تطوير أشكال الكتابة السائدة، بحيث تصبح قادرة على التعبير عن كل ما لديها جسدياً وروحياً وفق تعبير فرجينيا وولف.

يختلف الشعر لناحية بنيته اللغوية والتعبيرية والجمالية عن الرواية، فالأول يتميز بالتكثيف الشديد والانزياح في لغته، على خلاف الرواية التي يمنح فيها السرد للشخصية الساردة مساحة واسعة للحكي. وإذا كانت هذه السمة على صلة قريبة من طبيعة المرأة وميلها إلى الحكي، فإن الشعر هو أكثر ارتباطاً بشخصية الشاعر وقرباً منها. بقي أن نشير إلى مسألة مهمّة أخرى ترتبط بطبيعة الشعر الذي قام التميّز فيه لناحية القيمة الإبداعية على أساس مفهوم الفحولة، الكاشف عن هيمنة قيم الذكورة عليه، لذا نجد أعدادا قليلة من الشاعرات اللواتي اشتهرن، وفي مقدمهن الشاعرة الخنساء، التي اشتهرت كشاعرة رثاء وبكاء أكثر من أي شيء آخر.

ذكّر الشاعر بتذكير عالم الشعر من خلال طبعه بطابعه الذكوري الخاص. لذا على المرأة تعميق تجربتها الشعرية على مستوى ارتباطها بالذات الأنثوية وتعبيرها عنها، ليس على مستوى القول فحسب، إنما على مستوى اللغة والتعبير والرؤية الجمالية، فهل يمكن لعلاقة المرأة بالشعر أن تتطور وتتوسع إلى الحدّ يمكّنه من تجاوز ما هو عليه الآن؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى