فتاوى الطاعون الأصفر!

آية الله العلامة الشيخ عفيف النابلسي

لم تعد تحيا هذه الأرض إلا على العداوة والنفور بعدما استجلب عتاة العالم ومردته لها بشراً من حجر أو أشدّ قسوة منه. «داعش» و «النصرة» وأخواتهما يثيرون إعصاراً من نار يلتهم البشر وكأنهم هشيم لا أرواح حرم الله المساس بها. صورة الصراع الدائر في المنطقة تعكس مجموعة من الظواهر الغريبة التي تقشعر لها الأبدان والنفوس. وكأنّ المنطقة تفرز كل ما لديها من وحشية وقساوة بالأفعال والأقوال. نرى اليوم تناقضاً صارخاً بين مبادئ الإسلام السامية وبين تصرفات المسلمين الهابطة التي جعلت الأمة أشلاء ممزقة مبعثرة لا تعرف للهدى سبيلاً، والأعداء في الخارج وعلى رأسهم أميركا يتفرجون على حالنا بمزيد من الاحتقار والاستهانة بفعل هذه الفظاعات التي يرتكبها المسلمون بحق أنفسهم وكأن لا وحياً نزل ولا نبياً جاء داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.

ما نشهده اليوم من غلو ديني ومن تطرف فكري في مجال الفتوى الفقهية من جملة هذه الظواهر. باتت الفتاوى في الساحة الإسلامية العامة موكولة لمشايخ أغرار يدعون إلى القتل ويسوغون الإرهاب ويدفعون نحو القطيعة والعداء بين المسلمين والمسيحيين، بل حتى بين قسم من المسلمين وقسم آخر منهم الموصوفون بــ «المرتدين». لقد تم طمس معالم الإسلام الحضارية ومبادئه الاجتماعية وريادته الأخلاقية والقيمية المحفوظة في القرآن الكريم وسيرة النبي الكريم وأصحابه والتابعين لصالح نباح مقيت يعبر عن أسوأ فئة ازدادت مع انفراط عقد الوعي الإسلامي صلافة وجلافة ونهماً واستشراساً واستسهالاً لنقل فتاوى الطاعون الأصفر التي تبيح القتل بل وإبادة النسل.

فمن يهب لهؤلاء هذا الحق؟ مَن يضيّق الإسلام ويجعله مجموعة من الأحكام الثأرية والانتقامية؟ مَن يحوّله إلى سمّ ينتشر في الهواء تنفح هذه الدولة أو تلك؟ من يجعله أثقل دين يلقي الاضطراب في الأفكار والنقمة في الحياة؟ المسألة لم تعد أنّ هناك تصرفاً خاطئاً بل منهجاً شائعاً يلقى رواجاً كبيراً بين صفوف المسلمين. هؤلاء المشايخ الذين تحفل بهم الفضائيات وتنقل فتاواهم كبريات الصحف والمجلات يريدون جرّ المسلمين إلى التيه والتشرد والصدامات الطائفية والمذهبية، وإلى بناء مناطق فكرية محاطة بمتاريس الكراهية.

لا شك أنّ هناك إفساداً للوعي وتمزيقاً للنسيج الاجتماعي وتشويهاً للإسلام الذي يظهر على لسان هؤلاء البلهاء بلسان القامع المعادي الذي لا يقبل أحداً خارج عداد الفئة التي ينتمي لها والإمارة التي ينتسب إليها.

إنّ الله عز وجل بعث رسوله موحداً لا مفرقاً، وراحماً لا ناقماً، ومؤلفاً بين الناس ليسود الاستقرار والسلام والمحبة والتآخي والتعاون في المجتمع، وهذه هي رسالة الإسلام وهذا هو الفكر النقي الذي يتوافق مع المجرى التاريخي في ما يتصل بعلاقة المسلمين مع بعضهم البعض ومع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى.

إنّ موجة التطرف نمت وتعاظمت في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يعاند ويكابر كل يوم من أجل أن يجد له موضعاً في المنطقة، والذي أراه أنّ هذه الموجة تعمدت ضرب القيم الإسلامية والعلاقات الأخوية بين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين والمسيحيين، ودفعت بالشباب المغرر بهم إلى نشر الأقذار والأوساخ الجاهلية والتصرف بعداوة تجاه الآخرين واستعمال العنف لتحقيق طموحات ذاتية على حساب المجتمع والوطن والأمة.

إن دعوتي موجّهة للقوى الإسلامية الواعية والمتعلمة والمثقفة إلى التحرك وعدم الانكفاء والاكتفاء بالقدر البسيط من البيانات والمواقف الخجولة. إنّ هذه القوى معنية اليوم أن تؤكد بقوة:

على وحدة الأمّة الإسلامية هوية وعقيدة وروحاً ومساراً ومستقبلاً ومصيراً.

على المشروع الحضاري للإسلام الذي يتميّز بالانفتاح والتواصل والتعارف والتقارب بين مختلف المجموعات البشرية على أساس قيم الحق والعدالة.

على رفض الظلم بمختلف أشكاله ومستوياته ومن أي جهة أتى.

على مواجهة أعداء الله والإنسان الذين يعمدون إلى تفريق وتمزيق وتجويع الشعوب المستضعفة وحرمانها من الحرية والعلم والحياة الكريمة وعلى رأس الأعداء أميركا و«إسرائيل».

على ضرورة مواجهة التحديات الفقهية والفكرية بالمنطق والعلم والحجة ونشر الوعي في صفوف المسلمين وعلى التزام آداب الحوار والاختلاف وحرمة الدماء وعدم الخروج عن الحدود التي وضعها الله في القرآن الكريم بفتاوى التكفير والقتل الرائجة بقوة هذه الأيام.

على أنّ مقتضى الانتماء إلى الإسلام وتعاليمه يحتمان على جميع المسلمين البحث عن رؤية جامعة للخروج من الأزمات العميقة التي تواجهها المجتمعات الإسلامية بروح الإيمان والمسؤولية.

إنّ الرسالة الخاتمة ما كانت خاتمة إلاّ لأنّها تحمل كل الكمالات والخير والسعادة للإنسان. والإسلام هو خاتمة الحضارات الإنسانية ومن اسمه يُعرف أن أحد غايات الإسلام الكبرى هي السلام ومن لا يملك الحب والوعي والثقافة والإيمان وإرادة الخير للآخرين لن يستطيع أن يصنع السلام ولا أن يحمل مشروعاً فيه القسط والعدل للبشرية جمعاء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى