العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية» تصل إلى مرحلة المحاسبة 2

دايفيد روثكوبف

كلّما حصل هذا، كلّما كان ردّ فعل الحكومة «الإسرائيلية» أكثر جرأة… ما يؤثر سلباً على العلاقات «الإسرائيلية» ـ الأميركية والهجمات على كيري والإفصاح عن مضمون المكالمات الهاتفية فضلاً عن لغة التواصل الفظّة. فالقادة «الإسرائيليون» مصرّون على الذهاب إلى البيت الأبيض وإلى الكونغرس. حتى أنني أمتلك بعض المحادثات لـ«الإسرائيليين» تقول إنّ «الأميركيين لا يفهمون الوقائع إنهم سُذّج». غير أننا ندرك الحقائق جيداً. يبدو أنّ عدداً من القادة «الإسرائيليين» يتجاهلون ما نتحدث عنه، من تحوّل أجيال تاريخي سيلقي بظلاله على المكوّن الأساس للداعم الرئيس العالمي لدولتهم. فكيف تفسر إذاً هذا التناقض الفاضح؟

– أعتقد أنّ مردّ ذلك يعود إلى أنّ «إسرائيل» لم تعُد تلك الدولة الصغيرة والضعيفة ما صبغ علاقتها الوثيقة وموقعها المعتمد بشكلٍ كلّيّ على الولايات المتحدة. فهي تمتلك اليوم جيشاً واقتصاداً قويّين، كما أنها عملت على تطوير علاقاتها مع القوى العالمية، وهذا لم يكن متوفراً لديها سابقاً.

قلّة قليلة هم من لاحظوا أن الحكومة الهندية كانت من الدول التي دعمت «إسرائيل» في هذه الحرب أيّدت وسائل الإعلام الصينية «إسرائيل»، التي طوّرت علاقات استراتيجية مع البلدين، وأيضاً مع روسيا، ما حدا بـ«إسرائيل» إلى تغييب نفسها عن تصويت الجمعية العمومية للأمم المتحدة يدين ضمّ شبه جزيرة القرم لروسيا. وأعتقد أن هناك توجّه عام في «إسرائيل» يكمن في جرأتهم على تحمّل الابتعاد عن الولايات المتحدة. يرى «الإسرائيليون» أيضاً إمكانية كبيرة في التعاون مع دول الخليج كانت منتفية من ذي قبل، فهناك الآن مصالح مشتركة، تتمثل في كبح جماح البرنامج النووي الإيراني والتخوّف من سيطرة إيران على المنطقة، والقضاء على نظام بشار الأسد في سورية، ومحاربة حزب الله والإخوان المسلمين وقرينتهم حماس في غزّة… تتشارك «إسرائيل» هذه الحزمة من الأعداء مع الأنظمة الخليجية السنيّة ونظام عبد الفتاح السيسي في مصر. وقد انعكس ذلك بوضوح على الأزمة في غزّة، إذ دعم السعوديون والمصريون «إسرائيل» للقضاء على حماس.

إذاً، هذه العوامل مجتمعةً أشعرت «إسرائيل» بأهمية العمل على استقلاليتها أكثر عن الولايات المتحدة، خصوصاً أنّ هذه الأخيرة خسرت الكثير في المنطقة. كما أن القادة العرب شعروا بضعف أميركا، ورأوا حاجتهم إلى التعاون مع «إسرائيل» من تحت الطاولة لمواجهة الفوضى والتهديدات المحيطة.

وأعتقد أنّ الإطار الذي تتواجد فيه «إسرائيل» الآن مختلف جداً. فبعض سياسيي اليمين المتطرّف يرون أنّ الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة تعبير رخيص عن استقلاليتهم ووطنيتهم. لا أذكر أنه سبق لليمين السياسي المتطرّف أن كسب شعبية بعد انتقاده سياسة الولايات المتحدة. لكن يبدو أن هؤلاء لا يبالون بدفع الثمن. بل أتوقع ما هو أعمق من هذا، لقد أصبحت «إسرائيل» قوّة قائمة بحدّ ذاتها، ولم تعُد بحاجة إلى الولايات المتحدة. إنها «إسرائيل» المتغطرسة.

حصل هذا مرة قبل حرب عام 1973، عندما شعر «الإسرائيليون» بأنهم القوة العظمى في المنطقة وليسوا بحاجة إلى أن يقلقوا بشأن أيّ دعم من الولايات المتحدة. لكن آمالهم خابت عندما فاجأتهم كلّ من سورية ومصر بالهجوم المباغت في يوم الغفران عام 1973، إذ وجدت «إسرائيل» نفسها فجأة بحاجة ماسة إلى دعم الولايات المتحدة. لذا، قد تنفجر فقاعة الغرور هذه وسيفهم حينذاك قادة اليمين المتبجحين أنّ الولايات المتحدة ليست فقط أهم صديق لـ«إسرائيل»، بل الصديق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه.

هل ترى أنّ البيت الأبيض حاول إرسال رسالة حول غزّة؟ هل تعتقد أنه يمارس المزيد من الضغط على «الإسرائيليين»، وهذا ما لم يتعوّدوا عليه؟

– لا أعتقد ذلك. بل أرى اهتماماً رئاسياً بحجم الخسارة التي وقعت في صفوف المدنيين في غزّة، وقد عبّر البيت الأبيض عن ذلك في الجلسات الخاصة أولاً ثم علانية. وهذا التعبير جاء كردّ فعل بعد قصف مراكز الأمم المتحدة التي كانت تؤوي الأبرياء، خصوصاً الأطفال.

كان الرئيس أوباما واضحاً جداً منذ بداية توليه الرئاسة ـ وهذا لم يُكسبه شيئاً بين «الإسرائيليين» أنفسهم أو حتى أولئك الداعمين لهم في الولايات المتحدة ـ فقد اعتبر أنه مهما تكن الخلافات بينه وبين رئيس الوزراء «الإسرائيلي»، فإنه لن يسمح لذلك بالانسحاب على العلاقات الأمنية. فهو لا يزال داعماً أساسياً لمتطلبات الأمن «الإسرائيلي» على رغم التوتر الحاصل على مستوى العلاقة الشخصية.

لذا، لا أعتقد أنّ البيت الأبيض يفكر اليوم في إيقاف دعم «إسرائيل» بالأسلحة والعتاد بهدف الضغط عليها لإيقاف إطلاق النار. فـ«الإسرائيليون» ـ في الحقيقة ـ هم من كانوا يطلبون وقف إطلاق النار. السؤال كان حول كيفية إرغام حماس على إيقاف إطلاق صواريخها.

إلامَ تعزو أسباب هذه الهجمة الواضحة على وزير الخارجية الذي كان يتفانى في السعي قدماً إلى تحقيق تقدّم في مسار مفاوضات السلام والتي ستصبّ ـ على الأقلّ نظرياً ـ في مصلحة «إسرائيل»؟

– حسناً، بدأ هذا مع هجوم وزير الدفاع موشي يعالون، على وزير الخارجية الأميركية خلال علمية التفاوض، والتي أعزوها إلى سببين رئيسين. يكمن الأول في أنّ وزير الدفاع يدرك تماماً حاجات «إسرائيل» الدفاعية، والثاني أنه لا يريد سحب قواته من نهر الأردن، وهذا ما ستتضمنه المحادثات إذا ما وُقعت الاتفاقية. إذاً، كان هناك عدم موافقة موضوعية، لكن التصرّف بقلّة احترام أمرٌ مزعج للغاية، خصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار المساعدات الأميركية المقدّمة لدعم الأمن «الإسرائيلي» وتطويره، وهذا ما يتحمل مسؤوليته وزير الدفاع نفسه.

وقد خرج هذا الموضوع عن السيطرة أثناء الحرب على غزّة، حين هوجم كيري، بصفته خائناً لـ«إسرائيل» لأنه كان يفاوض مع رئيس الوزراء على وقفٍ لإطلاق النار، ويحثّ كلاً من قطر وتركيا للضغط على حماس بهدف إيقاف صواريخها. ولم يتبنّ هذا الانتقاد اليمين السياسي فقط، بل وصل إلى ذروته مع المعتدلين أيضاً، بعدما نشرت صحيفة «هاآرتس» ثلاثة مقالات يهاجم صحافيوها سياسة كيري. وأرى أن هذا جاء نتيجة لشعور «الإسرائيليين» بأنهم أصبحوا معزولين، وأنّ العالم عاجزٌ عن فهمهم. وفي ظلّ هذا الشعور المتفاقم بعدم الأمان، أعتقد أن «الإسرائيليين» كانوا ينتظرون خيانة الولايات المتحدة، علماً أن وزير الخارجية والرئيس الأميركيين صرّحا مراراً عن حق «إسرائيل» في الدفاع عن النفس. فهم فسروا تصريحات كيري وإجراءاته على أنها تقويض لـ«إسرائيل» لمصلحة حماس، وهدم للتوافق المزدهر بينهم وبين كلّ من السعودية ومصر.

في الحقيقة، ولسوء الحظ، كان هذا ما حصل، وقد غذّى هذا الواقع أحد المسؤولين «الإسرائيليين»، لم يُكشف عن إسمه بعد، ممن وصف كيري بأنه «يقود هجوماً إرهابياً استراتيجياً»، ما أغضب فعلاً الرئيس الأميركي.

إذاً، نظرياً؟

– أعتقد أنّ العرض الذي طرحه جون كيري على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كان أفضل بكثير من المبادرة المصرية ـ التي انهارت عملياً في غزّة ـ ولسوء الحظ، لا يتعاطف الناس مع هذه الوقائع، والحملة التي شُنّت على وزير الخارجية كانت فظيعة. وصراحةً أقول، أنني لم أشهد على شيء مماثل طيلة ثلاثة عقود من مراقبتي العلاقات الأميركية «الإسرائيلية».

يبدو أنّ «الإسرائيليين» ـ حتى الآن ـ يفعلون ما يحلو لهم من دون محاسبة بفضل العلاقة الأمنية الوطيدة التي لا تتوقف على طاولة الرئيس. إذاً، يمكن لوزير الدفاع أن يقول ما يشاء كونه يعلم مسبقاً أنه ما من عواقب محتملة على أفعاله هذه. إما هذا، أو انهم يختبرون حدود هذه العلاقة التي لم نستشعرها نحن بعد؟

– أتعلم، أرى أنّ واشنطن تبدي الكثير من الصبر والتحمّل بسبب التزامها الأساس في هذه العلاقة. وأعتقد أن جون كيري يتمتع بسجلّ مشرّف في «إسرائيل» ـ ثلاثون سنة في مجلس الشيوخ، زِدْ على ذلك الدعم الكامل وهذا لا يعود مردّه إلى أن لجنة الشؤون العامة الأميركية ـ «الإسرائيلية» هي التي طلبت منه القيام بذلك، بل فهمه أهمية العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية» واستراتيجيتها.

لذا، وكما تعلم، هناك تسامح مع حوادث لفظية كهذه والتي قد تحصل، فكيري يعلم أنها غير صحيحة. لكن الولايات المتحدة كبيرة وقوية جداً، وقد شبّهها أحدهم بالديناصور، وسيستفيق هذا الديناصور يوماً ما، ويرفع ذيله وينزله مجدّّداً. وحينذاك!!! … فبما أنه ما من عواقب لفعلة اليمين السياسي هذه، أرى أنه من التهوّر الافتراض أنه لن يكون هناك محاسبة يوماً ما. ومهما اعتقدت «إسرائيل» أن الولايات المتحدة تحتاج إليها، فعندما يبلغ السيل الزبى، تكون القاعدة هي التالية: «إسرائيل» محتاجةٌ أكثر إلى الولايات المتحدة. ومن المحتمل ان تكون هذه هي القاعدة المتبعة من الآن فصاعداً. فليس من المستحسن أن نكون سيئي النيّة.

حوارٌ خاص مع المبعوث الأميركي السابق الخاص مارتن إنديك حول حلفاء «إسرائيل» الجدد، انفجار غزّة، وانكفاء واشنطن بعد انهيار محادثات السلام.

ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى