عندما تصبح الخيانة وجهة نظر

عدنان كنفاني

نبشتُ في صفحات التاريخ القديم والوسيط، لعلّي أجد حقبة ما من الحقب التي مرّت بالأمّة، تشبه الحقبة التي نعيشها الآن… فلم أجد!

ولست أبالغ إذا قلت بأننا عبر كل المراحل التي مرت بها أمتنا، بل وأمم الأرض قاطبة قرأنا عن حالات فردية مشابهة، لكنّها مقنّعة بالخجل على أقل اعتبار، إذ لم تخل حقبة من حقب التاريخ، من وجود غير معلن وغير محدود وغير معروف لخونة وعملاء ومأجورين ومتخاذلين وجواسيس، وهذا السلوك الدوني ليس حكراً على منطقتنا، بل ينسحب على مساحة العالم والأمم كلها، وقد يكون الجنرال «بيته» الفرنسي الجنسية الذي كان بطلاً وطنياً لفرنسا إبان الحرب العالمية الأولى، ثم أصبح رمزاً للخيانة بعمالته للنازيين في الحرب العالمية الثانية، وقد جئت على ذكره مثالاً ليس إلا. لكن ما يعنيني هنا منطقتنا العربية تحديداً، من خلال مرور سريع لمن أراد أن يسمع ويعي ويكتشف.

كانت العمالة والخيانة على مر العصور تُجاهد كي تتوارى وتختفي ولا تظهر للعلن، أما الآن فقد تمزّق برقع الحياء عن وجوه البعض، وأصبحوا بكل الصلافة والتعالي يجاهرون بعهرهم وخيانتهم وعمالتهم.

لا أتحدث عن غرائب ولا أبالغ، ويستطيع أيّ كان ومن خلال تنقّل سريع عبر مختلف وسائل الإعلام المرئية والمقروءة أن يتأكد من ذلك.

إذ ما معنى أن يجنح البعض وبالفم الملآن إلى التشدق بمهادنة الأعداء التاريخيين للأمّة! ومنذ متى كان عدو جدّنا… يودّنا؟

ومن نجده يعزف على وتر السلام كغاية مثلى لا يختلف عليها اثنان، وهو يدرك يقيناً أنه في واقع منطقتنا العربية تحديداً، وفي فلسطين تأكيداً، ليس أكثر من سلام سرابي واهم يقنّعُ غاية أخرى خبيثة ملخصها الاستسلام.

وكيف يمكن أن نفسّر من يقول علانية وهو منا، وينطق بالضاد بأن المناضل والمقاوم والمدافع عن أرضه وعرضه إرهابياً؟!

وما معنى أن يفكّ البعض، ممن يدّعون انتماءهم إلى الهوية العربية، عرى الأخوّة مع القريب والجار العربي، ثم يضعونهم في قائمة الأعداء؟!

وما معنى أن يخرج من هو عربي، ويعلن بأن حكومته العربية لن تسمح بأي حال تحت طائلة تهديد يصل إلى القتل، أن تدخل قطعة سلاح للمقاومين في فلسطين، أو رغيف خبز للمحاصرين حتى النخاع في قطاع غزة، في وقت يسكت ويصيبه الخرس وهو يسمع ويرى شحنات لا تتوقف من الأسلحة الفتاكة تسيّر نهاراً جهاراً للعدو الصهيوني؟!

ومن يستنجد ـ كمن يستنجد بالرمضاء من النار ـ بالنووي الصهيوني ليحمي نفسه من نووي مفترض لدولة إسلامية أعلنت وتعلن أنها تسعى «كما أمم الأرض» لأغراض سلمية وحاجات تحديثية باتت ملحّة؟!

وما معنى أن تصبح الطائفية هي المعيار الوطني للانتماء إلى الوطن؟! ومنذ متى كنّا في كل أقطارنا العربية نقيم ذلك الميزان الخبيث؟! صلاح الدين الأيوبي كان كردياً، وطارق بن زياد كان بربرياً، وتاريخنا مليء بالشواهد، أما عن المسيحيّين فحدث ولا حرج، وكم كانوا في طليعة صفوف القوميّين.

وما معنى أن يدخل من يفترض أنهم أخوة في الوطن على دبابات الغزاة لاحتلال وتدمير الوطن؟!

وما معنى أن يعمل البعض على تفريغ أهمّ وأكبر انتصارات الأمة في تاريخها الحديث على أعدائنا التاريخيين في جنوب لبنان وفي غزّة من نتائجه، و»يجاهد» كي يحوّل الانتصارات العظيمة إلى هزائم؟!

وما معنى أن يصبح أعداء الإنسانية مسالمين وحضاريين، وقضيتنا معهم مجرّد اختلاف في وجهات النظر، يمكن تداركها بالمفاوضات؟!

وما معنى أن تصبح الدولة، المفترض أن تكون راعية للإسلام، أكبر محرّضة على اجتثاث قيم الإسلام؟

وما معنى أن نجد من يستعدي شعبه بإدخال قوات أجنبية معادية لقمع إرادة شعبه؟

وما معنى أن نجد من يستنكر فداء المناضلين، ويشارك في أسرهم وقتلهم وتشريدهم وتجويعهم، بينما يقدم توسّلات العزاء والمشاركة لمن يوغل قتلاً فينا؟

وما معنى أن نجد أعلام ورايات الأعداء ترفرف في أمهات بعض العواصم العربية؟

وما معنى أن تهدر الأموال المركونة في مصارف الأعداء بين وقت ووقت بالمصادرة والاستيلاء، ثم يواصلون إيداع سرقاتهم من أقوات شعوبهم في المصارف نفسها؟

أيها السادة، إنه الزمن الرديء… أن يصبح الجلاد ومثير الفتن والقاتل والمأجور سيد القرار في بلده، وأن يصبح العميل والخائن ممثلاً لإرادة شعبه.

تطالعنا وجوههم الكالحة المقيتة وهم يتحدثون بكل الصلافة والرياء والعهر، يطلّون علينا في كل وقت، ويفخرون بإعلان ولائهم لأعداء الأمة الذين لم يتوانوا يوماً عن هتك قوميتنا، والإيغال فينا قتلاً وتشريداً وتدميراً.

وعندما يصدر صوت يمثل إرادة الناس، تنكبّ عليه الأصوات «الجاعرة» وتكيل عليه شتى أنواع الكذب والافتراء والادعاء، وموسوعات شتائم لا تنتهي.

رحم الله جمال عبد الناصر عندما قال: «إن طعنة العدو تقتل، لكن طعنة الصديق تذبح القلب».

إن الطريق للنصر تبدأ أولاً بإسكات تلك الأصوات المقيتة، وإخفاء تلك الوجوه الكالحة، ليبدو وجهنا الحقيقي غير المشوّه.

إنه الزمن العجيب عندما تصبح الخيانة السافرة وجهة نظر، وعندما يصبح العهر أمراً عادياً يحتل الكثير من منابرنا الإعلامية العربية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى