مَنْ أراد حرف مسار «مؤتمر الدفاع عن مسيحيّي الشرق»… ولماذا؟

ماجد حنا

ما كان مأمولاً من انعقاد «مؤتمر الدفاع عن مسيحيّي الشرق» في واشنطن، لم يتحقق. فالعناوين والقضايا التي اجتمع لأجلها بطاركة الشرق وممثلون لحاضرة الفاتيكان وزهاء ألف شخصية يمثلون جهات روحية وحزبية وسياسية، عمل البعض على تجويفها، وظهر جلياً أنّ الجهة المنظمة تستبطن أهدافاً للمؤتمر مغايرة للهدف المعلن «الدفاع عن مسيحيي الشرق» في وجه الإرهاب والتطرف الذي يستهدفهم.

غالبية المشاركين في المؤتمر، لا سيما بطاركة أنطاكيا وسائر المشرق، ذهبوا الى مؤتمر واشنطن لبحث السبل الكفيلة بدفع الخطر الذي يتهدّد الوجود المسيحي في الشرق، بعدما تعرّضوا للقتل والتهجير على أيدي المجموعات الإرهابية المتطرفة في الموصل، وقبلها في معلولا وغير منطقة سورية. وكان يفترض أن يشكل المؤتمر منصة لإعلان موقف كبير، يحدّد الخطر وسبل مواجهته، ويضع الدول قاطبة، وفي مقدمها الولايات المتحدة، أمام مسؤولياتها بهذا الخصوص.

وما كان يتوخاه المشاركون في المؤتمر وذهبوا لأجله، جرى التعبير عنه صراحة في جلسة افتتاح المؤتمر، فإلى رسالة قداسة بابا الفاتيكان الموجهة إلى المؤتمرين والتي أعرب فيها عن تضامنه مع مسيحيّي الشرق في معاناتهم، ودعوته الى دعم حقوقهم، تحدثت الكلمات الأخرى عما يتعرّض له المسيحيون، وضرورة مواجهة المجموعات الإرهابية المتطرفة وإنهاء وجودها، ودعت الى إيقاف كلّ أنواع الدعم الذي يقدم الى «داعش» و»النصرة» وأخواتهما من المجموعات الإرهابية، وعلى الأصعدة الاقتصادية والمالية والعسكرية واللوجستية كافة، وتساءل أكثر من متحدث عن أسباب الصمت الدولي حيال ممارسات تنظيم «داعش» الإرهابية بحق المسيحيين والعديد من معتنقي الديانات السماوية.

الموقف برز واضحاً وجلياً في افتتاح الموتمر، فهو يندد بالارهاب ويدعو إلى القضاء عليه، ويحث الدول كافة على تحمل مسؤولياتها بمحاربته ووقف دعمه وتمويله، لكن ما حصل أن هذا الموقف اصطدم بأفخاخ وضعها المنظمون والجهات التي تقف خلفهم، وهي أفخاخ معدّة مسبقاً لإفشال المؤتمر في حالة رفض الخضوع لإملاءات وطروحات كالتي أعلن عنها السيناتور الأميركي تيد كروز في حفل عشاء المؤتمر.

كروز الذي حضر حفل العشاء خطيباً، تجاهل في خطابه كلّ المواقف التي حفلت بها الجلسة الافتتاحية، وخاطب المؤتمرين بفظاظة غير مسبوقة، إذ أعلن أنه على المسحيّين في الشرق «الوقوف إلى جانب اليهود «وإسرائيل» في الصراع ضدّ الإرهاب»، ما أثار عاصفة رفض واستنكار لهذا الموقف الفظ، واعتباره موقفاً يمثل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، ويرمي إلى اقتلاع المسيحيين من انتمائهم وفصلهم عن قضاياهم المشرقية.

لم يقتصر المشهد في حفل العشاء على ما أعلنه السيناتور كروز، بل كان لافتاً أن الجهات المنظمة تؤيد موقف كروز، وظهر ذلك من خلال محاولاتها إسكات الأصوات التي علت داخل قاعة الحفل معترضة ومستنكرة، إلا أنّ الاستنكار تصاعد، ووصل الى حدّ رفض بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك غريغورس الثالث لحّام هذا الخلل الفاضح ثمّ مغادرته القاعة ومعه سفير لبنان في واشنطن أنطوان شديد وعدد من رؤساء وأعضاء الوفود المشاركة.

خوّام أول المتصدّين

ويسجل لعضو المؤتمر، عضو المجلس القومي في الحزب السوري القومي الاجتماعي بسام خوّام، أنه كان أول المتصدّين لكروز معلناً على مسمع الحضور إدانته الشديدة لكلام السيناتور الأميركي ومطالباً بطرده، ثم تطوّر الأمر الى سجال حادّ بين خوّام وعضوي اللجنة المنظمة توفيق بعقليني وجلبير شاغوري، اللذين أظهرا تواطؤاً مع كروز ما استدعى اتهام خوام لهما بتحويل المؤتمر عن أهدافه الحقيقية خدمة لمشاريع مشبوهة. وهذا ما جعل اللجنة المنظمة تتخذ قراراً بمنع خوّام من متابعة أعمال المؤتمر، وذلك في إجراء يعكس طبيعة الدور الذي تؤدّيه هذه اللجنة لمصلحة جهات تدين بمواقفها وسلوكها لجهات مشبوهة مرتبطة بالعدو الصهيوني، والتي عملت على إفساد المؤتمر بدعوة شخصيات تدين بالولاء لـ»اللوبي الصهيوني».

صفاقة كروز استتبعت بصفاقة مماثلة من بعقليني وزميله شاغوري اللذين منعا خوّام من مواصلة حضور جلسات المؤتمر، الأمر الذي أثار حفيظة العديد من المشاركين وفي مقدمهم عدد من الرؤساء الروحيين، ولم تقتصر الصفاقة على قرار المنع هذا، بل أنّ بعض المشاركين ووسائل الإعلام عبروا عن سخطهم من قيام شاغوري بإرهاب إحدى الراهبات، وهي الأمّ أغنيس المعروفة بدورها الإنساني، ومنعَها من التعبير عن اعتراضها وموقفها، وبحسب المصادر ذاتها فقد تعرّضت الأمّ أغنيس للشتم علناً من قبل عضو تيار المستقبل النائب السابق غطاس خوري، في خروج عن أصول التخاطب والتعاطي.

على اية حال فإنّ ما حصل في حفل العشاء، ليس محصوراً بالمواجهة الحادة بين المشاركين وبين عضو الكونغرس الأميركي – الصهيوني تيد كروز، بل كشف عن جوانب خطيرة، عنوانها الدور الذي يؤدّيه أشخاص مرتهنون بسلوكهم ونشاطاتهم إلى جهات خارجية مشبوهة، وخطورة دور هيئات ومؤسسات تنشط في أميركا باسم الدفاع عن المسيحيّين فيما هي منغمسة في مشاريع تستهدف الوجود المسيحي في الشرق.

ولا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّ ما كان يجدر أن يصدر عن المؤتمر من وثيقة تاريخية، تضمّنته المذكرة التي سلّمها وفد بطاركة انطاكيا وسائر المشرق إلى الرئيس الأميركي باراك اوباما الذي اجتمع بهم على مدى أكثر من 40 دقيقة، وتضمّنت المذكرة عرضاً لواقع المسيحيّين في الشرق ومطالبة بالعمل السريع لمواجهة المنظمات الإرهابية، وتشديد على ضرورة إعادة الذين هُجّروا الى مناطقهم ومنازلهم وتوفير الأمن والسلام لهم، ومطالبة الدول التي تدعم الإرهابيّين وتموّلهم بوقف أيّ نوع من أنواع الدعم والتمويل.

لذلك لا بدّ من البناء على المواقف التي عبّر عنها البطاركة وغالبية أعضاء المؤتمر وترجمتها بسلسلة مواقف توضح مكامن الخطر الذي يتهدّد المسيحيين في الشرق، انطلاقاً من ثابتة الانتماء إلى المشرق والتجذّر به في مواجهة مشاريع تهجير المسيحيّين التي لا يزال العمل جارياً بها في الدوائر الغربية، وتتخذ اشكالاً وأوجهاً مختلفة.

وبموازاة ذلك، لا بدّ ايضاً من رفع وتيرة التحرك ضدّ الإرهاب والتطرف والتنديد بجرائمه ضدّ المسيحيين وسائر الأقليات في العراق وسورية، ومطالبة العالم بضرورة وقف دعم الإرهاب والتطرف بكل مجموعاته، والتوقف عن استهداف دول المنطقة وخصوصاً سورية التي تشكل ضمانة حقيقة للتنوّع في هذا الشرق.

في الخلاصة يمكن القول إنّ جهات مشبوهة حاولت أن تجعل من «مؤتمر الدفاع عن مسيحيّي الشرق» الذي انعقد في واشنطن بين 9 و11 أيلول، مؤتمراً لتشجيع المسيحيين على الانسلاخ عن المشرق الذين هم أساسه، وإفقادهم بوصلة الانتماء الى هذا المشرق، وذلك على غرار محاولات سابقة رعتها جهات دولية بهدف تهجير المسيحيين، لكن إصرار هذه الشريحة على الانتماء إلى الأرض والى التاريخ كفيل بإفشال كلّ المخططات المشبوهة. فإرادة مسيحيي الشرق هي ارادة المشرقيين بكل شرائحهم، وهي ارادة مواجهة ضد الارهاب والتطرف والاحتلال والاستعمار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى