رواية «الأرمغان» لشريف لطفي تزعج أحلام السلاطين

عودة روائيّة إلى الماضي البعيد تستدعي حقبة المماليك التاريخية وأجواء السلاطين والحاشية والسلطة الغاشمة، والشعب المقهور المغلوب على أمره والذي يحيا يوما بيومه ولا يجد متنفساً ولا وملجأ ولا ملاذاً من العذاب المقيم والخوف الجاثم واليأس الذي تغلغل إلى النفوس وتشربته الأرواح، إلاّ «الحلم»، الحلم بالخلاص والتغيير والأمل في غد قادم تتفتح في العيون على مستقبل مشرق، ولقمة عيش هنية يكسبونها بعرقهم، كرامتهم محفوظة، وحقوقهم مصونة، وحريتهم ملك إرادتهم… فكيف يواجه السلطان المستبد أحلام الرعية؟

في روايته الجديدة «الأرمغان»، الصادرة لدى الدار المصرية ـ اللبنانية، يتخذ الكاتب والروائي شريف لطفي من ثنائية الحلم والكابوس مجازاً فنياً لتصوير ثنائيات الممكن والمستحيل، المثال والواقع، الأمل والإحباط، في مغامرة فنية تطمح إلى أن لأن تكون تأريخا فنياً وتسجيلاً روائياً لما تصطنعه السلطة الغاشمة بأذرعها الباطشة من أساليب وإجراءات وآليات لإحكام السيطرة على شعوبها المقهورة، وتكريس الأوضاع وإحكام السيطرة وسد المنافذ، بما يحول ويمنع من التفكير أو الحلم، مجرد حلم، للخروج من هذه الدائرة الجهنمية والبحث عن ثغرة قد تتسع لتصبح ثغراً، للإعلان عن حلم الشعوب بالتغيير، الخلاص، الثورة.

مغامرة فنية محفوفة بالأخطار تستدعي أن يكون الفنان المغامر مدركاً صعوبة وتبعات خوضها، مع التركيز الشديد في صوغ تجربته الفنية ونسجها، ونجح شريف لطفي بذلك في تجربته الروائية الثانية، إذ قرر اللجوء إلى قناع التاريخ ودهاليز العقل الباطن كإطار محكم لروايته «الأرمغان»، و«الأرمغان» كلمة من أصل فارسي معناها «الهدية» أو «هدية المسافر»، كانت شائعة الاستخدام في العصر العثماني وما زالت تستخدم إلى اليوم في عامية مدينة حلب الشهباء في سورية.

تنطلق حوادث الرواية حين يستيقظ السلطان ذات صباح مهموماً مؤرقاً بسبب «حلم مزعج» رآه في نومه، «كابوس» أزعجه وأقلق منامه، فيستدعي نائبه الداهية ويأمره فوراً بإحضار «ضارب الرمال» و»مفسر الأحلام» لمعرفة تفسير هذا الكابوس اللعين. في حين تصله الأنباء عن شيوع «الأحلام» في أوساط الرعية، يتداولون «أحلاما» رآها بسطاء مثلهم، أناس من المصريين، فسرها لهم «الشيخ مهدي» كل بحسب ما رآه وحلم به.

عبر فصول الرواية تتكشف الحوادث شيئا فشيئا، ففي مواجهة «الحلم المزعج» أو «كابوس» السلطان الذي أخبره بمدلوله ومعناه «مفسر الأحلام»، الصبي الموهوب في تفسيرها، يرى أربعة من الرعية هم على الترتيب «جابر النقلي»، «زينب البلانة»، «أحمد السقاء»، و»فاطمة الجارية». أربعة أحلام متتابعة، يشير كل حلم منها بدلالته وتفسيره إلى ما أشعل غضب السلطان وأثار ثائرته، فيقرر الاستعانة بنائبه الداهية لمواجهة ظاهرة تفشي الأحلام بين الرعية والبحث عن سبل مواجهتها. فبمَ أشار عليه نائبه وكاتم أسراره؟ وكيف واجه أحلام الرعية؟ وهل نجح في القضاء عليها فعلا؟ وماذا كان مصير المصريين الأربعة الذين حلموا بما لم يحلم به سواهم، لكن وفي الوقت ذاته تكاثرت تلك الأحلام وتناسلت وتوالدت لتتحول إلى أحلام جديدة تتناقل من منزل إلى منزل من دون أن تراه عيون السلطان و»بصاصين السلطنة»؟ كيف استنبتت السلطة آلية «الكابوس المضاد» لقمع «حلم التغيير»؟

بين مواجهات السلطان وحاشيته وقوته الباطشة لأحلام الرعية وتناسلها، وباستخدام تقنية «القطع» أو «المونتاج السينمائي» تتتابع حوادث الرواية في حقبة حالكة من تاريخ مصر في العصر المملوكي، ورغم أنها «مصر المحروسة» في زمن سلطان المماليك، لا تكاد تختلف في كثير أو قليل عن «مصر المحروسة» في زمن سلاطين القرن الحادي والعشرين، وإن اختلفت الأسماء والوجوه والرموز والمناصب، وحتى لو اختلفت «عناوين الصحف» التي سنفاجأ بأنها واحدة، في لعبة سردية محبوكة ومتعمدة، تستوقف القارئ وتجذبه إلى مواصلة القراءة والكشف عن مفاتيح اللعبة.

يبدو التماثل شاهداً وقائماً في بنية الرواية التخييلية وشعارات الثورة الأربعة التي رفعها المصريون ورددها الملايين في 25 يناير 2011، وما تلاها، كما يبدو انحياز الروائي من خلال شخوصه إلى تجسيد التوازي الصارخ بين ما حصل في مصر المحروسة 2011 وما حصل فيها أيضا في زمان سابق عصر المماليك، إذ ثمة إشارات دالة في وصف الأماكن وأسمائها والإحالات التاريخية الشارحة التي أفاض المؤلف في استخدامها على امتداد صفحات الرواية .

استند شريف لطفي في «الأرمغان» إلى معرفة وافرة وواسعة بالتراث العربي، تاريخاً وعمارة وفناً، حتى على مستوى صوغ الأحلام روائياً. ولعل أصعب مرحلة في كتابة هذا العمل، على ما أوضح الروائي نفسه، مثل انبناء الأحلام حيث كان همه الأول أن يكون «الحلم» المعبر عنه سرديا في الرواية أقرب ما يكون إلى طبيعة الحلم الحقيقية، وأن يُفسّر بشكل علمي يؤدي إلى المعنى الذي يود إيصاله إلى القارئ. وهي بالتأكيد مسألة شاقة وصعوبة حقيقية واجهت الروائي إذ إن «بناء الحلم» هو العملية العكسية تماماً لتفسيره وتفكيكه بحسب إشاراته ورموزه. فتفسير الحلم يستوجب وجود حلم في الأساس، وفي كل حلم توجد مجموعة صور ورموز وإشارات وألوان وعلامات تفسّر في المجمل من مجلدات تحوي معنى كل رمز وفق سياقه في الحلم.

يبدو أن المؤلف عكف على مجموعة من الكتب القديمة التي اعتمد عليها ورجع إليها في صوغ هذه الأحلام ودمجها سردياً في بنية نصه الروائي، منها على سبيل المثال كتاب محمد ابن سيرين المشهور «تفسير الأحلام»، وكتاب عبدالغني النابلسي «تعطير الأنام في تفسير الأحلام». ويعود الكاتب إلى عدد كبير من كتب الخطط والآثار لكبار مؤرخي مصر الإسلامية، لعل أبرزها كتاب «الخطط والآثار في التراجم والأخبار» لشيخ شيوخ مؤرخي مصر الإسلامية تقي الدين أحمد، ابن علي المقريزي.

«الأرمغان» بصورة أو أخرى رواية «رمزية» بامتياز، أراد مؤلفها من خلالها أن يقدم إلينا محاولة للإجابة عن السؤال: لِمَ كان حتمياً أن ينتفض الناس ويثور الشعب مثلما حدث في 25 يناير، بغض النظر عما آلت إليه الأمور بعدها وحتى الآن.

الكثير من الآراء والقناعات التي ضمنها الكاتب بين السطور وأراد أن يسلط الضوء على المسكوت عنه مستتراً بحيلة الفن وقناع التاريخ، لكنه في النهاية قدم شهادة أراد منها وبها أن يدين الظلم والاستبداد في كل مكان وزمان، مثلما كان في مصر المملوكية، ومصر الآن.

رحلة في الحاضر الذي نحياه عبر الماضي الذي لم نَعِشْه، إلى المستقبل الذي لم تتحدد ملامحه ولم ندرك شكله بعد وما سيكون عليه. وبحث روائي مستفيض عن أحط ما أفرزه الفكر البشري في سعيه إلى الهيمنة والسيطرة والاستبداد على رقاب العباد، فيدفعون أرواحهم ودماءهم ثمناً لأحلامهم التي لم يروها يوماً تتحقق على الأرض.

شريف لطفي كاتب وروائي مصري من مواليد 1977، تخرج في كلية الهندسة، جامعة القاهرة، عام 2000، ويحمل درجة ماجستير في إدارة الأعمال، وماجستير في اقتصاد التراث الثقافي من جامعة تور فيرغاتا في روما. صدرت له رواية «حكاية سعيد المصري» عام 2013 لدى «الدار المصرية ـ اللبنانية».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى