كيف تواجه المنطقة حرب الاستنزاف الأميركية الجديدة؟

العميد د. أمين محمد حطيط

بعد مؤتمر باريس المنعقد تحت عنوان محاربة الإرهاب في العراق، بدأ يتضح أكثر مسار خطة أوباما المسماة «الحرب الدولية على الإرهاب» بقيادة أميركا التي تحلم بتوليف تحالف دولي يعيد لها البريق الذي ذوى بعد ما يقارب الربع قرن على إنشاء أول تحالف دولي بقياتها تحت عنوان التحالف لتحرير الكويت. وقد توضحت خريطة المواقف الدولية بشكل أكبر، ما حمل أميركا على رفع مستوى النبرة وحدة الخطاب لتقنع المترددين بالانضمام إليها وبأنها جادة في ما تخطط له وتعلن من حرب.

في هذا السياق، جاء كلام وزير الحرب الأميركي مؤكداً قرار أميركا بـ»قيادة ائتلاف دولي واسع ضد تهديد تنظيم داعش» الذي هو في الأصل منتج أميركي وجسر عبور لأميركا للعودة إلى ميدان المنطقة، ولاقاه رئيس الأركان الأميركي بتوضيح أسلوب العمل في المنطقة عموماً وسورية خصوصاً، بقوله إن الضربات الجوية التي تعتزم أميركا اللجوء إليها «ستكون متكررة ومستمرة، وليست بأسلوب الصدمة والرعب». وسبقهما أوباما في تصريحاته المتتالية إلى القول بأن الحرب التي ستبدأها أميركا بطيرانها في العراق ثم في سورية، تستلزم وقتاً أدناه 3 سنوات، وأنه سيسلم المهمة إلى خلفه أي عام 2017، فهو لا يظن أنها سينهيها خلال أربع سنوات مدة ولاية الرئيس الأميركي .

إن أميركا في مواقفها الأخيرة ترسم مشهداً جديداً تطرح حوله الأسئلة الكبرى حول طبيعة الحرب التي تريد زج المنطقة فيها وأهدافها الحقيقية من تلك الحرب، ودور الائتلاف أو التحالف الدولي الذي تسعى إليه ليكون شريكها أو أداتها في تلك الحرب، خصوصاً أن حروب أميركا في العقود الثلاثة الأخيرة، اعتمدت على فكرة التحالف الدولي بقيادتها بقرار أو من غير قرار من مجلس الأمن. وعلى رغم أن أميركا حققت عبر تلك التحالفات شيئاً من أهدافها، لكنها في المحصلة النهائية لم تصل إلى تحقيق الهدف الأكبر وهو إقامة نظام عالمي بقيادتها. وهذا ما يؤرقها اليوم ويدفعها إلى العمل على منع الانهيارات المحتملة في مواقعها الاستراتيجية الدولية.

وفي ظل ما آلت إليه أوضاع المسرح الاستراتيجي الذي تسميه أميركا وفقاً لتقسيماتها العسكرية للعالم «المنطقة الوسطى» وما فيه من خيبات أميركية، وفي ظل عجز عسكري أميركي عن تكرار ما حصل في أفغانستان إذ ستخرج منها ومعها الحلف الأطلسي من دون أن تثبت السقف الذي وضعته لمصالحها هناك، وبعد الفشل الأميركي في إسقاط سورية على رغم عدوان مازال قائماً عليها منذ أربع سنوات، ومع القرار الأميركي بالانتقال العسكري الهادئ من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى في مواجهة الصين، ومع خوف أميركي من أن تتمكن القوى الإقليمية والدولية الصاعدة والمناهضة لأميركا، من ملأ الفراغ وامتلاك ناصية القرار والنفوذ في الشرق الأوسط وإقامة شرق أوسط لأهله على أنقاض الأحلام الأميركية بشرق أوسط أميركي، في ظل ذلك كله جاءت استراتيجية أوباما الانتقامية من المنطقة وبرزت الحاجة إلى تحالف دولي للسير قدماً في تنفيذها عبر الخطوط والخصائص التي تجعل من الحرب التي ستترجم هذه الاستراتيجية مختلفة في كثير من عناصرها ومزاياها عن الحروب الأميركية السابقة.

ففي طبيعة الحرب بذاتها، وفي تحليل للأفكار والمواقف الأميركية، نجد أن المخطط الأميركي يتجه إلى تفجير حرب استنزاف طويلة يكون هو مديرها وضابط إيقاعها والمشارك بشكل محدود بخدمتها النارية من دون أن يضطر إلى حفر الخنادق لجنوده أو نقل الجحافل العسكرية وفتح الجبهات الطويلة التي يراق فيها دم الأميركيين على رمال الشرق الأوسط وصخوره، ولهذا نجد الحديث المتصاعد عن مهل الـ3 سنوات والعشر سنوات والمهل المفتوحة أيضاً، وحرب الاستنزاف هذه تؤكدها تصريحات رئيس الأركان الأميركي عندما يلوح بإمكان إرسال قوات برية أميركية إلى العراق لاجتثاث داعش، بينما يقول في الوقت نفسه إنهم لا ينوون القضاء عليه في سورية بل إضعافه، يقول ذلك مع علمه الأكيد بأن داعش جعل من سورية والعراق ميدانا واحداً له والقضاء الفعلي عليه يستوجب العمل في الميدانين معاً، وبالتنسيق مع أصحاب السيادة على الأرض. وهذا ما لا تفعله أميركا في سورية، لأنها تريد شيئاً آخر، تريد إبقاء داعش والاستمرار في حرب الاستنزاف.

إنها حرب استنزاف إذن يحتاج فيها الأميركي إلى قوى تتناحر على اليابسة، ويدير تناحرها بشكل يمنع أحد من الفرقاء من الحسم مهما حقق من انتصارات في الميدان، كما يمنعه من استثمار انتصاراته إلا إذا كان الاستثمار سيؤدي إلى تسعير النار، ويمنع الطرف الآخر من الاستسلام وإخلاء الميدان. ولذلك يعمل الأميركي على توفير حاجات حرب الاستنزاف تلك بشكل يمكّن نارها من التأجج الدائم. وبهذا المنطق نفسّر سعي أميركا إلى التحالف الدولي الذي يؤمن المال عبر السعودية والخليجيين الآخرين ويؤمن الإرهابيين الذين يشغلون الميدان ويؤمن متطلبات الحرب النفسية، كما أنها التزمت هي بذاتها الحضور إلى الميدان بطيرانها من أجل تنفيذ ضربات جوية تكون بمثابة جرعات نارية، تسعيراً للحريق الذي أضرمته، ولذك نعتبر أن التدخل الجوي الأميركي ذو غاية رئيسية في الميدان هي المحافظة على النار المشتعلة خدمة لمنطق حرب الاستنزاف.

والآن وبعد اتضاح الصورة يكون ملحاً البحث عن خطة دفاعية ملائمة للتصدي للعدوان الأميركي الإرهابي الذي إذا نجح في تحقيق أهدافه، سيحرم المنطقة ومحور مقاومتها من استثمار الكثير من انتصاراتها وإنجازاتها السابقة في وجه المشروع الصهيوأميركي، وفي هذا السياق نرى أن المستهدف بالعدوان الأميركي في صيغته الجديدة بحاجة إلى ما يلي:

الاستمرار في المواجهة الصلبة والعمل على خطين متلازمين، يكون في الأول منهما تجنب الإفراط في رد الفعل وعدم اللجوء إلى القوة المفرطة التي تستنزف الطاقات في غير محلها، أو في غير وقتها أهمية التزام جدول أولويات صارم ، أما الثاني فيكون عبر تجنب الاسترخاء والتقليل من مخاطر التهديدات.

الحذر من الوقوع فريسة الحرب النفسية الإرهابية، والتذكر دائماً بأن أميركا تعمل في عدوانها على خطين أيضاً، هما عدم الوصول إلى الانفجار الكلي الشامل، وعدم خفوت النار بشكل يمكّن الخصم من تحقيق الإنجازات الميدانية واستثمارها لذلك لا نتوقع أن تصدم بالجيش العربي السوري أو بحلفائه مباشرة .

صياغة الذات والبيئة الاجتماعية والطاقات وبرمجة الكل لتناسب حرب استنزاف طويلة، وهنا يحضرني تركيز الإعلام الغربي الاستقصائي على معرفة قدرة سورية على حرب طويلة.

هيكلة المجتمع ومؤسساته بما يمكنها من امتلاك المناعة أمام الحرب النفسية أولاً ثم تمكينها من العمل في ظل حرب استنزاف قاسية وطويلة. لأن مجتمعاً مفككاً واقتصاداً مترنحاً سيشكل ضغطاً على صانع القرار وقد يقود إلى تحقيق أهداف العدو من حرب الاستنزاف بشكل جزئي أو كلي.

وفي نظرة إجمالية، نرى أن الكثير من مقومات النجاح في مواجهة حرب الاستنزاف الأميركية متوافر، والظروف ليست في مصلحة أميركا كما كانت قبل عقد من المزمن، فالتحالف الدولي الذي تسعى إليه أميركا ليس سهل الإنشاء لم ينشأ بعد ، والظروف الدولية ليست في مصلحتها، كذلك لا نجد أرضية واقعية صالحة لتسعير حرب الاستنزاف كما تريد أميركا، كل ذلك يدفعنا إلى القول بأن هذه الحرب الأميركية الجديدة لن يكون مصيرها أفضل من المحاولات الأميركية الفاشلة، لكن ينبغي أن لا نغفل الثمن الباهظ الذي قد نضطر لدفعه في سياق العمل لإفشالها.

العميد د. أمين محمد حطيط

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى