الدولة المضحية

ثائر أحمد ابراهيم

الدولة ضمير الأمة والمعبّر عنها، قالها هيغل وأكدها الأرسوزي.

وحيث أنّ مجموعة الأشخاص الاعتبارية والطبيعية التي تشكل نسيج الدولة بالحالة الجمعية هي المكوّن الحقيقي والمسبّب الأساسي لقيام الدولة، فمن الهرطقة أن يعتبر أي كان أنّ الدولة تتعامل بالعقلية الفردية في سيرورة وجودها، فالدولة تشتغل على اعتبارات المصلحة الجمعية للمنظومة بعيدة المدى الحافظة لوجودها واستمرارها.

ومن أهم مقومات وأسباب استمرار وجود الدولة، استمرار عمل مؤسساتها المتشكلة من مجموعة الأفراد المتبنية للفكرة الجمعية في تحقيق المصلحة الكلية، والمبدية استعدادها لتقديم ما يلزم لأجل استمرار قيام الدولة وتحقيق مصلحة المنظومة عموماً، والتي لا بد من أن تنعكس خيراً أكيداً على الحالة الخاصة لأفراد الدولة وأشخاص المنظومة.

عندما يقدم الفرد أثناء قيامه بواجبه كل ما يمكنه، فإنما يقدم تضحيته لأجل المصلحة العليا للدولة، ونتيجة ارتباطه الوثيق بالمنظومة فإن بذله سيندرج في حساب بذل الدولة لتصبح الدولة بالمحصلة هي المضحي في سبيل تحقيق مصلحة أفرادها ارتكازاً إلى تضحية أبنائها بعضهم أو كلهم.

إن ضعف الانتماء إلى المنظومة تفضحه تخمينات المرائين لمقدار تضحية الدولة لحظة رغبتهم في حصاد الثناء على جودة الأداء، مغفلين عمداً حقيقة تضحية المنظومة التي لا تحسب بالكثير أو بالقليل لكون المضحي الحقيقي دائماً هو أفراد الدولة المنتمين إلى المنظومة المؤمنين بفكرتها والمنخرطين بعملهم ضمن أروقة مؤسساتها.

لو أن فرداً طبيعياً اشتغل ضمن مؤسسة خاصة غير تابعة لهيكلية السلطة الرسمية ضمن الدولة وبغض النظر أكان عملها فوق أراضي الدولة أم خارجها، وقام بتقديم روحه أثناء تأدية واجبه العملي اليومي خدمة للفكرة التي اعتقدها، فهل تحسب التضحية له أم للمؤسسة التي ألزمته العمل؟

ولو أن فرداً اشتغل في إحدى المؤسسات الرسمية التابعة للسلطة فقدم روحه فداء لقناعته بضرورة قيام الدولة والتزاما بواجبات عمله الموكلة إليه، فهل يكون هو المضحي عند ذلك أم تكون المؤسسة هي المضحية؟

لا ريب في أن العلاقة بين الدولة والأفراد متكاملة في التضحية عند بذل الفرد لما يمكنه لحساب المنظومة الكبرى، بيد أن أساس انطلاق فكرة التضحية هو قناعة الفرد الذاتية وإرادته الحرة الراغبة في التضحية والبذل لأجل بقاء المنظومة وحماية وجود الدولة.

الفكرة المجردة ينتجها الإنسان الفرد ليتفق على أحقيتها جماعة الأفراد ويطبقها أصحاب المقدرة منهم، فإما أن تحقق الربح للجميع أو تصيبهم الخسارة جميعاً.

إنه جوهر عمل الدولة، لذا كان إجحافاً وظلماً القول إن منظومةً ما قد ضحت دون غيرها من المنظومات إذا ما كان حديثنا عن أداء مؤسسات الدولة.

ومن الخطأ الشنيع التحدث عن تضحية مؤسسة بكيانها من دون أن ندل على أساس البذل والعطاء المتجلي في العمل الفردي الخادم لمصلحة المنظومة كلها، لأنه وفي الحالتين لا يجوز أن تنسب الفضيلة إلى الدولة قبل نضوجها في نفوس أبناء المنظومة وترجمتها بذلاً يقر العدل نسبته بالنتيجة إلى المنظومة كلها، والسبب في ذلك أن تضحية مجموعة مؤمنة من أبناء المنظومة لا تمنع شبهة الارتكاب عن باقي أبناء المنظومة الشاذين عن تبني الفكرة، على رغم أنها تسبغ الدولة برمتها بسمة المضحي.

مناسبة كل ما أسلفته من حديث أنه في زمن التزلف والمراءاة، درج إصرار الممسكين بزمام العمل المؤسساتي من الفاسدين على إزكام أنوف العامة بدعايات تضحيات المؤسسة التي يتولون شؤون إدارتها، حتى بات يبدو للمتابع أن سادة الفساد يقطعون أجسادهم خدمة لأبناء المنظومة متناسين أنه لولا بذل المعتقدين لما سمعنا يوماً بالدولة المضحية.

نحترم بذل من ضحى، و لا نهنئ عيشاً إلا بعقاب الفاسدين.

محام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى