صيرورة العالم بين ماضٍ وحاضر ومستقبل 1

جورج كعدي

ساد في الستّينات من القرن الفائت أنّ الماضي معلوم يقيناً، وأنّ الحاضر معلوم كذلك بطبيعة الحال، وأنّ أساس المجتمع الإنسانيّ ثابت، وأنّ المستقبل سوف ينبني على الأسس المتينة عبر تنمية التوجّهات المهيمنة اقتصاداً وعلماً وتكنولوجيا. وظنّ الفكر التكنو ـ بيروقراطيّ أنّه يستطيع التنبؤ بالآتي. بل خال، في تفاؤل ساذج، أنّ القرن الحادي والعشرين سيقطف الثمار الناضجة لتقدّم الإنسانيّة. إلاّ أنّ مستشرفي المستقبل بنوا مستقبلاً خياليّاً انطلاقاً من حاضر مجرّد.

هذه التبسيطيّة الإشكاليّة تأمّل فيها مفكّرون وفلاسفة كثر، وشكّلت للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسيّ إدغار موران محور بحث فلسفيّ شائق منحه العنوان السؤال؟ o va le monde، مصوّباً المسار والمنطق الجدليّين، ومقترحاً منهجيّة فكريّة جديدة أكثر تماسكاً وعلميّة وواقعيّة تفضي في النهاية إلى تصوّر متين يعقد صلة بين الماضي والحاضر والمستقبل تفضي إلى استشراف واقعيّ غير مبنيّ على التجريد والخيال. إذ يرى موران أنّه ينبغي للتوصّل إلى تصوّر دقيق للصيرورة التاريخيّة أن نُحلّ تصوّراً مركّباً مكان التصوّر التبسيطيّ السائد الذي يعتقد بأنّ الماضي والحاضر معلومان، وأنّ عوامل التطوّر معلومة، وأن المستقبل يمكن التنبؤ به. في حين أنّ الواقع يفيدنا بأنّ ثمّة دوماً عمليّة تفاعل تبادليّة بين الماضي والحاضر، ولا يساهم الماضي في معرفة الحاضر فحسب، وهذا بديهيّ، بل تساهم تجارب الحاضر في معرفة الماضي وتعمل على تغييره. يُشيّد الماضي انطلاقاً من الحاضر. العلاقة بينهما جدليّة وفي الاتجاهين. ألا تعيد قراءة حدث تاريخيّ جَلَلْ مثل الثورة الفرنسية 1787 ـ 1788 وتقويمه تكوين النظرة السابقة إليه والأفكار الثابتة حوله. بلى، يستطيع الحاضر تغيير الماضي، في هذا المعنى، بتعديل الصورة الشائعة والثابتة عنه. مفكّرون ومؤرّخون كثر أعادوا كتابة الماضي ومحطّاته الكبرى: جوريس عن التجربة الاشتراكيّة، ماتييز عن البلشفيّة، سوبول عن الستالينيّة، غيران Gu rin عن الفوضويّة، فوريه Furet وريشيه Richet عن تجربة التخلّص من الستالينيّة، إلخ.

نكتشف ثغرة في الماضي تقابلها ثغرة في الحاضر. معرفة الحاضر تستوجب معرفة الماضي التي تستوجب بدورها ضرورة معرفة الحاضر، والوهم الأكبر هو الاعتقاد بأنّنا نملك معرفة عن الحاضر لمجرّد أنّنا موجودون فيه، فالصعوبة الأولى التي تواجه التفكير في المستقبل هي صعوبة التفكير في الحاضر. العماء إزاء الحاضر يمنعنا من رؤية المستقبل. قد لا يكفي التفكير في الحاضر على نحو صحيح لنغدو قادرين على استشراف الآتي. ينطوي عالمنا الراهن على أحوال الآتي بشكل مضمر. بذور مجهريّة سوف تتبلور لكنّها غير مرئيّة الآن بالنسبة إلى رؤيتنا.

يؤكّد موران على عدم خضوع التطوّر للقوانين أو لحتميّة متفوّقة، فهو ليس تطوّراً آلياً خطّياً متتابعاً، ولا وجود لعامل دائم الهيمنة يقود التطوّر، أو لكان المستقبل سهل التنبؤ لو كان التطوّر متعلّقاً بعامل مهيمن وبعلّية من علّة خطّية. ينبغي، على العكس، الانطلاق من أن الواقع متعدّد البعد ويتضمّن عوامل ديموغرافيّة واقتصاديّة وتقنيّة وسياسيّة وإيديولوجيّة… ويمكن أحدها أو بعضها أن يهيمن في لحظة، إنّما ثمّة في الحالات كلّها دوران للهيمنة. لا يسير الديالكتيك على القدمين ولا على الرأس، بل يدور، فهو قبل كل شيء حركة تأثير وتأثّر، أي حلقة في حركة أزليّة.

حركة الصيرورة مركّبة على نحو هائل. التاريخ يبدع، ينحرف، يتمايل، يبدّل السكّة ويضلّ السبيل. والتطوّر انسياق، وانحراف، وخلق، واضطراب، وأزمات… لم يتحقّق نموّ الصناعة على أرض الحضارة السابقة، بل عبر قلب أوضاع المجتمع التقليديّ على نحو كامل، وعبر نقل جموع سكان الأرياف إلى ضواحي المدن، محطّماً الروابط وأشكال التضامن لحساب علاقة ماليّة ومهدّماً ثقافات. تحدث من دون انقطاع انحرافات وتتقلّب مسارات. تنقلب الغايات إلى وسائل، والوسائل إلى غايات. ينتمي المستقبل بالأحرى إلى اللامحتمل لا إلى المحتمل، خاصة إذا استمرّ التطوّر على هذا النحو من التسارع والتعدّد الذي يعرفه عصرنا. مَنْ كان يستطيع، قبل أقلّ من خمسة عشر ألف سنة، أن يتوقّع ظهور الدولة والمدينة والإمبراطوريّة من خلال تأمّل شتات إنسانيّ مكوّن من مجموعات صغيرة من القنّاصين والرحّل من دون دولة ومن دون مدينة ومن دون زراعة؟

يبدو أن أزمة الحضارة في ما يخصّ المجتمعات الغربيّة، وأزمة الثقافة، وأزمة القيم، وأزمة العائلة، وأزمة الدولة، وأزمة الحياة الحضريّة، وأزمة الحياة القرويّة، إلخ، هي جوانب متعدّدة لكيان المجتمعات الذي يبدو كياناً مأزوماً. مجتمعات تهدّدها الأزمة، بيد أنها تتغذّى منها. كلٌّ من الشرق والغرب تنخره عوامل مأزومة، والعالم الثالث الذي ظهر إلى الوجود بفعل حركة الاستقلال يزداد تخلّفه عمقاً. فنقص عدد وفيات الأطفال وتفكّك اقتصاديّات المجتمعات التقليديّة وتدهور التوازنات البيئيّة والثقافيّة والسوسيولوجيّة الذي أنتجته التقنية الجاهلة، وزحف بيوت الصفيح على المدن… ذلك كلّه ولّد قحطاً جديداً ومجاعات إضافيّة، إذ يقدّر عدد الوفيّات بسبب سوء التغذية سنويّاً بثلاثين مليون وفاة يشكل منهم الأطفال ما دون الخامسة عشرة نسبة 15 إلى 18 في المئة. ولو استمرّ الوضع بهذه الوتيرة، مع التزايد الديموغرافيّ، لوصلنا قريباً إلى مليار وفاة سنويّاً. فالعالم الثالث يتأرجح بين الحياة والموت، وثمانون في المئة من البشر يعيشون صراعاً لأجل البقاء… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى