رسالتان من اسكتلندا

معن بشّور

في زحمة العواصف الدموية المحيطة بنا، كأمة وكإقليم، وفي زحمة الانكشاف المريع والمتصاعد لدور حكومات الغرب، وفي المقدمة منها حكومة بريطانيا، في تسعير الفتن وإشعال الحروب في هذه المنطقة، وفي حضور ذاكرة قومية لا تنسى للحظة دور سايكس ـ بيكو في تقسيم بلادنا، ودور وعد بلفور وسايكس وبلفور كانا وزيري خارجية بريطانيا في أوائل القرن الماضي في زرع الحاجز الاستيطاني العنصري الإرهابي بين المشرق العربي وبين مصر ومعها كل دول المغرب العربي، لا يمكن لعربي بسهولة أن يبدي ارتياحه لنتائج الاستفتاء التي أظهرت أن قوة الاتحاد في اسكتلندا أقوى من نزعة الانفصال المسماة استقلالاً.

ولكن مع ذلك، من أراد لبلاده الوحدة لا يمكن أن يريد لغيرها القسمة والتشرذم، حتى ولو كانت حكومات هذا الغير هي الأكثر تآمراً عليه، والأكثر تفنناً في ابتداع وسائل الاحتراب والتناحر داخل مجتمعاته.

فالوحدة، كقيمة أخلاقية وإنسانية، قبل أن تكون قيمة سياسية واقتصادية واستراتيجية لا تتجزأ، والوحدوي العربي يحذر كل مشاريع الانفصال والتفتيت القائمة أو المخطط لها في العالم، لأنه يعتبر أنه مهما كان واقع الكيانات القائمة حالياً سيئاً فإن تقسيمها وانفصال اجزاء عنها يبقى أسوأ على كل صعيد.

بالتأكيد لنصف الاسكتلنديبن تقريباً، وبحسب ما أظهرت نتائج الاستفتاء أمس، أسباب تدفعهم إلى السعي من أجل الانفصال أو الاستقلال، سواء ارتبطت تلك الأسباب بواقع التهميش الذي عانوا منه على يد الإنكليز على مدى ثلاثة قرون عمر المملكة المتحدة ، أو بواقع إساءة توزيع الموارد والثروة والسلطة بين مكونات المملكة، خصوصاً إذا تذكرنا أن كل النفط البريطاني يستخرج من بحر الشمال، أي من شواطئ اسكتلندا، وأن أكثر من 35 مليار جنيه استرليني من الصادرات البريطانية هي بسبب الويسكي الاسكتلندي، ولكن بالتأكيد أيضاً للمتمسكين بالوحدة وفي مقدمهم النائب البريطاني، المتمرد دائماً على سياسات حكومته جورج غالاواي، وجهة نظرهم التي تدفعهم بالتصويت نعم لبقاء اسكتلندا في إطار المملكة المتحدة.

فغالاواي اليساري الفكر والنشأة والالتزام، يرى مثلاً أن تقسيم بريطانيا يقود إلى تقسيم الطبقة العاملة، وبالتالي إلى إضعاف دورها في اسكتلندا، كما في بقية المملكة، وبالتالي فعمال بريطانيا كلهم، بما فيهم عمال اسكتلندا سيدفعون ثمن الانفصال تماماً كما دفعوا ثمن سياسات طوني بلير رئيس حزب العمال السابق، رئيس الحكومة الأسبق الداخلية والخارجية، لا سيمّا من خلال تشويه مسيرة حزب العمال والانقلاب على برامجه الاجتماعية والاقتصادية، وتراجع هذا الحزب في الانتخابات النيابية لا لمصلحة حزب المحافظين فقط، بل لمصلحة حزب الليبراليين الأحرار أيضاً.

وفي هذا الإطار، ونتيجة معرفته بحجم التذمر الاسكتلندي من السياسات الحكومية البريطانية والتحاقها بالسياسة الأميركية، وحتى الصهيونية، فإن غالاواي يعتقد أن بقاء اسكتلندا في إطار الاتحاد من شأنه أن يقوي احتمالات الاستقلال البريطاني عن الرضوخ للإملاءات الأميركية والصهيونية، ويعطي مثلاً على ذلك هو التصويت قبل عام على اشتراك بريطانيا في الحرب على سورية، حيث كان لنواب اسكتلندا في مجلس العموم الدور الحاسم في رفض مشاركة بلادهم في تلك الحرب، وهو رفض أدى مع اسباب أخرى إلى تراجع واشنطن عن تهديداتها.

في القضية الفلسطينية، يدرك كل متابع للسياسات في بريطانيا أن التعاطف مع الحق الفلسطيني في اسكتلندا يفوق بكثير تعاطف المكونات الأخرى في المجتمع البريطاني، وبالتالي فإن بقاء المكوّن الاسكتلندي في الاتحاد البريطاني من شأنه أن يسهم مع تحولات أخرى متسارعة في الرأي العام الإنكليزي، في تغيير الموقف البريطاني ذاته في زمن ليس ببعيد، لا سيما أن حجم المغانم التي كانت تجنيها بريطانيا في زمن المستعمرات قد تراجع إلى حد كبير. ناهيك عن استيلاء واشنطن على غالبية ما تبقى من الغنائم الاستعمارية.

من هنا فقد أرسل الاسكتلنديون عبر هذا الاستفتاء إلى حكومة كاميرون، كما إلى العالم بأسره، رسالتين في آونة واحدة، الأولى هي أنه مهما كانت المظالم وسياسات التهميش كبيرة فإن الانفصال ليس حلاً، وهذا وعي كبير بحركة التاريخ وقوانينها، وبالمصالح البعيدة المدى للمجتمعات ودولها.

أما الرسالة الثانية فهي أن الفارق الضئيل بين المؤيدين للوحدة والمعارضين لها مرشح لأن يتغيّر في أي استفتاء مقبل إذا لم تتغير سياسات حكومة لندن تجاه اسكتلندا سواء من جهة التهميش، أو احتكار السلطة والثروة.

والرسالتان أيضاً تستحقان أن يقرأهما بتعمق وتجرد كل دعاة الانفصال والتقسيم في بلادنا، وكل القيمين على مقدرات هذه البلاد من حكام متنفذين، فنرفض جميعاً نزعات الانفصال والتقسيم أياً كانت ذرائعها، ونرفض أيضاً سياسات التهميش والاحتكار والاحتراب والإقصاء أياً كانت مبرراتها.

فلا شيء يوحد كالوحدة التي تحترم كل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والقومية والإثنية، ولا شيء يشرذم كالتشرذم طائفياً كان أم مذهبياً أم عرقياً أم جهوياً أم فئوياً.

المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى