المناطق العازلة… عودة إلى الفشل؟

د. تركي صقر

عادت نغمة إقامة مناطق عازلة على الحدود السورية شمالاً وجنوباً متزامنة مع تحرك إدارة أوباما لإقامة تحالف دولي ضد داعش مما يعني أن نشوء التحالف لم يستحضر استعادة فكرة المناطق العازلة فقط وإنما شجع على إمكانية تطبيقها وفشلها في سابقاً… وفيما كانت حكومة نتنياهو تعمل في الخفاء منذ بداية الأحداث في سورية لإقامة شريط عازل في الجولان كثفت فجأة من أعمالها القتالية إلى جانب المجموعات المسلحة ودخلت في مواجهة مباشرة لضرب مواقع الجيش السوري وتمكين الإرهابيين من الوصول إليها وإلى قوات الفصل الدولية « الأندوف» واحتجزوا أعداداً منهم ما أدى إلى نقل هذه القوات إلى الجانب «الإسرائيلي» من الحدود وإفراغ المنطقة ليتاح للكيان الصهيوني إعلانها منطقة عازلة.

وبالنسبة لحكومة أردوغان كانت مطالبتها علنية وأكثر من مرة بإقامة منطقة حظر جوي في الشمال السوري وما أن طرحت واشنطن موضوع التحالف الدولي ضد داعش حتى عاجلت بطرح إقامة منطقة عازلة ليس على حدودها مع سورية فقط وإنما طلبت أن تمتد هذه المنطقة إلى حدودها مع العراق في موقف فسر وكأنه شرط لمشاركتها في التحالف. وفعلاً لم تبد الحكومة التركية حماستها للمشاركة ضد داعش، وحجتها كانت أن لديها رهائن محتجزين لدى «الدولة الإسلامية». لكن هناك من يؤكد بأنها أحد رعاة هذه «الدولة» الناشئة. وهذه ليست مجرد اتهامات وإنما تصل إلى حدود المكاشفة وتقديم وقائع في الصحف التركية نفسها. فلائحة الوقائع تبدأ بالحديث عن تقديم تسهيلات لوجستية وفتح حدودها أمام مقاتلين أجانب، ولا تنتهي بالتعاملات النفطية مع جماعة البغدادي. تريد تركيا ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. هي من جهة تسعى إلى إضعاف النظام السوري، وتبقي في الوقت نفسه عيناً مفتوحة على أكراد سورية المرتبطين بحزب العمال الكردستاني بزعامة أوجلان، وتعمل من جهة أخرى لجني مكتسبات عبر شراء النفط السوري والعراقي بأسعار زهيدة من البغدادي.

وبالنسبة للحدود الأردنية السورية فإن حكومة نتنياهو كانت تسعى باستمرار لربط الشريط العازل بالجولان مع الحدود مع الأردن، وكان الهدف من معركة درعا الكبرى التي تحدثت عنها السعودية نهاية العام الماضي وبغرفة عمليات سعودية «إسرائيلية» مشتركة أن تقام منطقة عازلة متصلة مع الجولان لكن الأردن الجار الأقرب إلى الحدث والأكثر تأثراً بنتائجه يدرك حراجة الموقف مما حدا برئيس وزرائه الإعلان عن ابتعاد عمان عن المشاركة في أي عمل عسكري. بينما شعبياً تخرج قوى وازنة في المملكة الهاشمية ترفض المشاركة العسكرية في ضرب داعش وبذلك تكون احتمالات قيام منطقة عازلة على الحدود الأردنية السورية غير واردة الآن وكل ما هنالك أن تكون هذه الحدود معبراً لتدفق المجموعات المزمع تدريبها بأوامر أميركية تحت اسم المعارضة المعتدلة في الأردن والسعودية.

من الواضح أن الاحتمالات الأكبر لإقامة مناطق عازلة ستكون في الشمال من قبل تركيا وفي الجنوب من قبل «إسرائيل»، كما أشرنا سابقاً، والغاية الأبعد لهذه المناطق أن تكون منصة للتقسيم تحت مظلة التحالف الدولي وهو الهدف الأميركي «الإسرائيلي» القديم المتجدد مع الظروف وهل هناك من ظروف مناسبة لتجديده أكثر من الظروف الجارية؟ ومن هنا نرى تسابقاً تركياً «إسرائيلياً» للانخراط في عمليات إقامة مناطق عازلة طمعاً في الحصول على حصتهما حين يبدأ التفكك والتقسيم. ومن هنا أيضاً طالبت حكومة أردوغان إدارة أوباما بالموافقة على إنشاء منطقة حظر جوي على حدودها مع سورية والعراق وعرضت هذا الطلب في مؤتمر جدة ومؤتمر باريس وتحفظت على دخول التحالف قبل أن يلبى طلبها.

إصراراً منها على تحضير المسرح لإقامة المناطق العازلة قامت الحكومة التركية بالتنسيق مع داعش للتمدد في المنطقة الحدودية وسهلت لها اجتياح 60 قرية كردية ومحاصرة عين العرب في لعبة مزدوجة تم من خلالها تسليم الدبلوماسيين الأتراك الذين كانوا محتجزين في الموصل وإجلاء عشرات الآلاف من سكان الحدود ليكون لدى حكومة أردوغان السبب للمطالبة بحظر جوي لحماية هؤلاء في الوقت الذي تدفع بقوات من حزب العمال الكردستاني إلى الشريط الحدودي للدفاع عن القرى الكردية وهي بذلك تتخلص من هذه القوات داخل أراضيها أيضاً. الحرب الأميركية – الخليجية – التركية ضد سورية، ليست على مشارف النهاية أبداً ولعل الخطة المعادية الآن، تسعى إلى استعادة سيناريو المناطق العازلة وفرض الحصار الداخلي والخارجي الذي تم فرضه على النظام العراقي السابق، تمهيداً لضعضعته وإسقاطه فالأميركيون الذين استعادوا، بحجة الحرب على «داعش»، نشاطهم العسكري العلني المباشر في المنطقة، ولمدّة ثلاثة أعوام على الأقل، سيبذلون، خلالها، كل جهد ممكن، عسكرياً وأمنياً وسياسياً، لمواصلة سلسلة من البدائل العدوانية ضد سورية. لكن سورية في العشرية الثانية من القرن الحالي، ليست العراق في تسعينات القرن الماضي فالجيش العربي السوري متماسك وقوي ويعمل في ضوء خطة وطنية تؤكد حضوره في كل مفاصل البلاد، بما يحول دون التقسيم الواقعي أو السياسي وتتمتع سورية بحليفين ثابتين يدعمانها استراتيجياً، روسيا وإيران، وسيكون ردّهما الفعلي قوياً ومفاجئاً إذا أقدمت إدارة أوباما على حماقة العدوان العسكري على سورية ولن يكون مصير محاولات إقامة مناطق عازلة إلا عودة إلى الفشل الذريع كما كان سابقاً وأكثر في ظل تنامي قدرات القوات المسلحة السورية وخبراتها في التقدم والمواجهة.

سفير سوري سابق

tu.sagr gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى