في مواجهة المبادرة الأميركية

نسيب أبو ضرغم

ما أن أصدر مجلس الأمن قراره المتعلّق بمحاربة الإرهاب ذا الرقم 2710، حتى سارعت الولايات المتحدة إلى تشكيل حلف دولي تحت عنوان محاربة الإرهاب، وبخاصة محاربة «داعش».

عقد مؤتمر جدة، وتبعه مؤتمر باريس، وتزعمت الولايات المتحدة هذا الحلف، ولكن ليس على قاعدة إنهاء «داعش» بل على قاعدة تنبيهها وتهذيبها، بحيث لا تعود «داعش» مجدداً للخروج على الخطوط المرسوم لها.

الدول المؤتمرة والمتآمرة التي اجتمعت في جدة وتالياً في باريس، وضعت مُحرّماً هو عدم الاتصال والتعاون مع الدولة السورية.

الحقيقة هي أن هذا «المحرّم» الذي فرضه المؤتمران، سالفا الذكر، كان لبّ التحالف الدولي الذي استحدثته واشنطن على وقع القرار الأممي رقم 2710، بحيث تُستبعد الدولة السورية عن عملية ضرب «داعش»، فالدولة السورية عينها هي المقصودة من هذا الحلف الدولي، وبالتالي فإن هدف إسقاط الدولة السورية هو الهدف الأساس في هذا الحراك كلّه، سواء على مستوى «الربيع العربي» أو على مستوى أهداف هذا الحلف الدولي المشبوه.

إسقاط الدولة السورية!

ماذا يعني على مستوى الهوية القومية؟ وماذا يعني على مستوى الدور الاستراتيجي، وهو المعبر الوحيد للحياة في الاتحاد الروسي. الدور الاستراتيجي لروسيا في منطقة البحر الأسود وبحر مرمرة والبحر المتوسط هو أكثر من دور، إنّه ضمان تدفق الحياة إلى الجسم الروسي.

يشكل البحر المتوسط الأوكسيجين الضروري للجسم، فيما يمثل البحر الأسود الرئة التي تستوعب الهواء وتضخّه أوكسيجيناً في خلايا الجسم كافة. الولايات المتحدة بطبيعة الحال تدرك ذلك، ولأنها تدركه وتريد استباق قيام العملاق الروسي بخلق عناصر إضعافه، خلقت مشكلة أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، أي أن الولايات المتحدة فخّخت عتبة البيت الروسي، بل أكثر، خنقت الرئة الروسية.

كان دور الجغرافيا في حياة روسيا حاسماً، فهي إمبراطورية عظيمة إذا كانت متواصلة مع الحياة الدافئة، والعكس صحيح. تحتل حيزاً واسعاً من صناعة التاريخ إذا استطاعت أن تجعل منه المياه الدافئة ومحيطها مدى جيوـ استراتيجياً لها. وتأسيساً على هذا الرأي نرى أن القاعدة الروسية الثانية والأخيرة لروسيا هي في طرطوس بعد قاعدتها الأولى في شبه جزيرة القرم. ماذا تريد الولايات المتحدة من خلق «دولة داعش» وتشجيع مشيخات الخليج وأنظمته على مدّها بالمال والإعلام والسلاح؟ ماذا تريد غير استنزاف الدولة السورية حتى تتهاوى ممزّقة إرباً إرباً على الطريقة الليبية، بحيث لا تسمح الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية بأن تحسم إحداها ضد الآخر، ويكون النفوذ والوجود الروسي في البحر المتوسط قد غاب إلى الأبد.

يمكننا القول بأنه إذا أبقت روسيا وجودها ونفوذها فاعلين في المنطقة، تبقى تكتب التاريخ في الصفحة الإقليمية منه وفي الصفحة الدولية. أما إذا قدر للولايات المتحدة أن تدمر سورية وتسقط دولتها، فيكون ذلك خروجاً للدولة الروسية من عملية كتابة التاريخ، لأنّها ستطرد إلى ما وراء البحر الأسود لتغوص عميقاً في مسطحات الجليد الصماء.

إن شراسة المواجهة التي تقودها روسيا في سورية خاصة، والمشرق عامة، لا تقل عن الشراسة التي تظهرها الدولة السورية في قتالها جميع التكفيريين. هي لحظة تاريخية للفريقين، روسيا وسورية.

أما ما يتعلق بروسيا، فإنها كما ذكرنا تمرّ في الامتحان الصعب الذي يتقرر على نتائجه استمرار روسيا في قيادة التاريخ البشري، أو سقوطها في جوف الجليد من دون صوت وذراع ورؤية. فإذا عززت وجودها في البحر السوري المتوسط وعلى التراب السوري بالتوافق مع الدولة السورية، أصبحت أكثر قدرة على إرساء قواعد النظام الدولي الجديد الذي سيدخل العالم في مرحلة توازن دولي تتجسد نتائجه بفسحات للسلام أكثر، وكذلك إحداث نوع من النمو والتطور ينعكس على المجتمعات المعينة.

أما في ما يتعلق بسورية فإنها اللحظة التاريخية التي وضعتها ضمن معادلة دولية صديقة، اللحظة التي لم تتوافر لها في بدايات القرن العشرين، يوم هَوَتْ مقصلة سايكس ـ بيكو على جسد الأمة، إذ لم تكن تموضعت ضمن أيّ معادلة، في حين خدع الشريف حسين من قبل الإنكليز، وكان خسر الوجود العثماني بإعلان الثورة عليه، فأصبح بين منهزم هو العثماني، وبالتالي لا يعنيه الوجود السوري، ورابح خدع الشريف حسين وغدر به وفرض بناء على ذلك اتفاقية سايكس بيكو.

في بداية القرن كنّا خارج المحورين المتقاتلين فلم نحصد إلاّ الهزيمة. أما في الحرب الثانية فإننا لم نكن أيضاً مع الحلفاء، ولم نكن مع ألمانيا النازية، وبالتالي وجدنا أنفسنا خارج فعل التاريخ، وتجسد ذلك بخلق «دولة إسرائيل» بعيد انتهاء الحرب.

اليوم، الأمر مختلف، القيادة السورية والشعب السوري والجيوبوليتيك السوري كلّه يندرج في معادلة دولية تطول مصالح دول بشكل عيمق. الاتحاد الروسي لا يمكنه التحرّك جنوب تركيا إلى أي بر آسيوي إذا خسر الجغرافيا السورية، وكذلك الدولة السورية الحليفة. وبالتالي فإن سورية موقعاً ودوراً هي جزء من معادلة دولية تضم دول «البريكس» وإيران، إضافة إلى مجموعة دول أميركا اللاتينية وسواها من دول ترفض الهيمنة الأميركية. هذه المعادلة التي افتقدناها طيلة القرن الماضي، هي اليوم معطى حيوياً يشكل شرطاً أساسياً للانتصار على هذه الحرب الإلغائية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية.

السؤال الذي يطرح نفسه:

لماذا تترك روسيا الولايات المتحدة تقوم بدور المنفذ للقرار الدولي، والعالم كلّه يدرك أن الولايات المتحدة تريد من «حربها على داعش» دوزنة حرب «داعش» علينا . لماذا لا تبادر روسيا ودول البريكس، وتطبيقاً للقرار الدولي 2710 إلى الدعوة لعقد مؤتمر عام في طهران أو موسكو أو دمشق، يضم الدول التي تعتقد حقيقة أن «داعش» خطر يجب استئصاله، خاصة أن الولايات المتحدة لا تريد قتال «داعش» في سورية؟

لماذا لا تأخذ روسيا والحلف المشار إليه مهمة قتال «داعش» في بقاع العالم كافة، وساعتئذٍ تفرض على الولايات المتحدة أحد أمرين:

1 ـ التنسيق بين الحلفين، وتكون روسيا بذلك أسقطت مؤامرة إخراجها من التاريخ.

2 ـ أو انسحاب حلف أميركا من القتال. وفي الحالين ثمة مصلحة أكيدة لمحور المقاومة ـ البريكس.

إن مهمة قتال «داعش» هي أيضاً مهمة دول أخرى خارج التحالف الأميركي، لا سيما أن هذا التحالف، على ما أشرنا، لا يقاتل «داعش» ولن يقاتلها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى