أردوغان… من مأزق إلى آخر
معن بشور
في لقاء عابر ضمّني إلى سفير تركيا في لبنان السيد إينان أوزلديز، وبعد أن اتضح حجم تورّط حكومة العدالة والتنمية في الأحداث السورية، قلت للسفير: «أتمنى أن تنقل هذه الرسالة إلى رئيس حكومتك آنذاك رجب طيب أردوغان من مواطن عربي وعروبي طالما سعى، وما زال، إلى إقامة مثلث عربي إيراني تركي يشكل قاعدة لاستقلال حقيقي لإقليم تجمع سكانه عقيدة واحدة، ويرتكز تراثه إلى حضارة مشتركة، كما يشكل اتساعه وموارده مرتكزاً لتنمية اقتصادية حقيقية تجعل من هذا الإقليم منظومة اقتصادية ومالية وتجارية كبرى بين المنظومات القائمة حالياً»…
واستطردت قائلاً: «رسالتي إلى السيد أردوغان أنه إذا تصرف في سورية كرئيس تركيا فستربح تركيا ويربح حزبه، أما إذا تصرف كرئيس حزب أو جماعة أو فئة، فستخسر تركيا، كما سيخسر حزبه والجماعة والفئة التي ينتسب إليها».
كان في اللقاء أيضا، الذي تمّ في حفل استقبال أقامه السفير المغربي في لبنان الصديق المثقف الدكتور علي أومليل بمناسبة عيد المغرب الوطني، سفيرة الاتحاد الأوروبي في لبنان أنجلينا إيخهورست التي تدخلت في الحديث بعد أن أطرق السفير التركي رأسه مفكراً في ما قلته، وربما في الطريقة التي سينقل بها هذه الرسالة.
قالت السفيرة الأوروبية: «لقد أُعلن بالأمس عن تأسيس «الجيش السوري الحر» وهذا ما سيؤثر طبعاً على النظام في سورية»، قلت للسفيرة يومها: «ولكن هل بلادكم مستعدة لإرسال جيوش إلى سورية لمساعدة من تسمّونه معارضة»؟! أجابت على الفور: «كلا… كلا…».
فعلّقت على جوابها قائلاً: «إذا كان الأمر كذلك، لماذا تدفعون بهؤلاء الناس إلى الانتحار الجماعي وانتم غير راغبين أو جادّين بنجدتهم؟ لماذا تحرّضونهم على حروب تؤدّي إلى تدمير بلادهم ومجتمعاتهم ومرافقهم، وأنتم تعرفون أنهم لن يحققوا شيئاً من أهدافهم؟! ألا تعتقدين أن حكوماتكم إذن شريكة في مسؤولية سفك دماء السوريين أيضاً»؟
صمتت السفيرة الأوروبية وودّعتنا ومشت، فيما بقي السفير التركي يفكر في ما قلته.
استحضرت هذا الحوار في لحظة، وصل بها الثنائي أردوغان داود أوغلو إلى ذروة مأزقهما السياسي، لا سيّما في ظلّ حرب عين عرب كوباني ، التي يظهر فيه الكرد السوريون بسالة منقطعة النظير في مواجهة هجمات داعش ، كما في ظلّ بروز «ائتلاف» تقوده واشنطن وتتمنّع أنقرة عن الالتحاق به إلا بشروطها التي لم تنجح حتى الآن في إقناع واشنطن بقبولها وإمكانية تحقيقها.
حرب داعش على عين عرب، تتحوّل إلى احتجاجات دموية داخل المدن التركية، لا سيما مدن جنوب شرقي تركيا وفي المقدمة منها مدينة ديار بكر. هذه الاحتجاجات التي وصل صداها أيضاً إلى أنقرة واسطنبول تضغط على أردوغان أن يتحرك لإنقاذ عين عرب، كما للإفراج عن العديد من المثقفين والمهنيين الأكراد السوريين الذين فرّوا من نار الحرب على مدينتهم ليقعوا في «رمضاء» السجون التركية.
وأردوغان يخشى من اتخاذ قرار بالتدخل، لأنّ هذا القرار سيؤدّي إلى احتدام الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة، كما لن ينجو الداخل التركي من شظاياه، لا سيما أن لـ»داعش» وأمثاله نفوذاً داخل البيئة التي يرتكز عليها أردوغان، وتشكل قاعدة شعبيته، وفي الوقت ذاته يخشى من عواقب سقوط عين عرب كوباني وتداعياته داخل تركيا وفي محيطها.
إن حكومة أردوغان عالقة إذن بين خيارين صعبين، فلا تستطيع تحمّل نتائج سقوط عين عرب التي لا تبعد أكثر من 30 كلم عن الحدود مع تركيا من جهة، كما لا تستطيع تحمّل نتائج التدخل البري الذي تضع كلّ يوم له شروطاً، تدرك هي قبل غيرها، استحالة تحقيقها.
هذا المأزق، ليس المأزق الوحيد الذي وضعت حكومة أردوغان نفسها فيه، ولن يكون الأخير، ما دامت مصمّمة على انتهاج سياسة تغلّب فيها الأهواء الذاتية على المصالح الموضوعية، والصغائر على المصائر، والحقد على العقل، والحسابات الخاطئة على التقدير السليم للموقف.
مأزق آخر وضع أردوغان نفسه فيه عبر علاقته المتأزمة مع حليفه الأكبر في واشنطن، وقد تلمّس رئيس جمهورية تركيا حجم تضايق إدارة أوباما من سياساته الفاشلة في سورية ومصر، في تونس وليبيا، في اليمن وصولاً إلى فلسطين، فالإدارة الأميركية تحاسب «حلفاءها» أو أدواتها بمدى التزامهم بطاعة أوامرها فحسب، بل بمدى قدرتهم على تحقيق إنجازات على هذا الصعيد، وإذا بالذين وعد أردوغان أوباما أن يصيروا حكاماً على أقطار عربية عريقة وكبيرة يصبحون لاجئين سياسيين بين أنقرة واسطنبول.
وبدلاً من أن ينضوي أردوغان الخاسر في أكثر من جبهة، تحت لواء ائتلاف يقوده أوباما للتدخل في سورية والعراق، بدأ يضع شروطاً لا تستسيغها واشنطن في الوقت الراهن على الأقل، إلى أن تلقى الصدمة الأكبر في نيويورك حين استقبل اوباما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خصمه اللدود ، فيما لم يحظ أردوغان وهو المنتخب حديثاً لرئاسة الجمهورية التركية بأكثر من لقاء مع نائب الرئيس جوزف بايدن، فعاد مسرعاً إلى بلاده ليعلن استعداده للانضمام إلى «الائتلاف» بعد الإفراج عن الرهائن الأتراك الذين «أسرهم» تنظيم «داعش» في الموصل.
لكن الوعد الأردوغاني تحوّل إلى مأزق جديد، إذا لم يستطع «الرئيس» العنيد والقوي أن يصدر قراراً بالتدخل، على رغم إجازة البرلمان التركي له ذلك، لأسباب ذكرناها سابقاً في هذا المقال، وطلب وفداً أميركياً يزور أنقرة للبحث في التفاصيل التي كثيراً ما تسكن فيها الشياطين.
مأزق أردوغان المتفرّع من مآزقه الأخرى يكمن أيضاً داخل معسكره نفسه، بدءاً من خلافه الشهير مع داعمه الأساسي وصاحب الفضل في تتويجه زعيماً للحركة الإسلامية «المعتدلة» «والمنفتحة» في تركيا، على حساب مؤسسها الدكتور الراحل نجم الدين أربكان أي فتح الله غولن، وصولاً إلى خلافه مع شريكه في مسيرة الانشقاق عن أردوغان، الرئيس التركي السابق عبد الله غول الذي لا يخفي، كما الكثير من أنصاره، غضبهم على أردوغان «ناكر الجميل والفضل» الذي لا يريد معه شركاء في قيادة الحزب والبلاد بل مجرد تُبّع وإمعات.
أما مأزق أردوغان الأصلي الذي تفرّعت عنه مآزقه الأخرى، فهو ذلك الخلط بين الواقع والأوهام، بين الإمكانات الفعلية والأحلام غير الواقعية، بين القراءة الدقيقة للواقع وبين الاستسلام للتفكير الرغبوي.
في حمّى هذا المأزق نسي أردوغان أن الفضل في كل ما حققه من إنجازات داخلية، لا سيما الاقتصادي منها، يعود في قسم كبير منه إلى سياسته الخارجية حيث نجح في السنوات الأولى لحكمه في إحاطة بلاده بسلسلة من الدول الصديقة والمتعاونة بل والمتكاملة مع تركيا، ونسي أن الخلل في هذه السياسات الخارجية، والذي تجلى في سورية ومصر بشكل خاص، لا بدّ أن يؤدي إلى خلل في السياسة الداخلية لتركيا سواء لجهة الأمن والاستقرار أو لجهة النمو والاستثمار…
فهل يستطيع أردوغان أن يجري مراجعة جذرية في سياساته؟ وهل هو قادر على أن يخرج نفسه من كل المآزق التي وضع نفسه بها؟
أسئلة سيجيب عليها الميدان في تركيا.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية