«شباك أمينة» لأسعد اللامي… العراق في هاوية الإحباط والتمزّق والموت

تسرد رواية «شباك أمينة» للروائي أسعد اللامي رحلة عذاب تبدأ من الحرب العراقية الإيرانية، وتنتهي بتفجير شارع المتنبي، كناية عن زوال سلطة العقل والمنطق التي تمثلها الكتب وتصبح رماداً تذروه الرياح.

في هذه الرواية تاريخ دام عاشه العراقيّون وتقطعت خلاله أوصالهم فتحوّلت إلى نفايات متناثرة، بعضهم سكن القبور، والآخر هاجر إلى الخارج، بينما عاش من استطاع الحفاظ على نفسه في هاوية بئر سحيقة مظلمة خانقة لا شيء فيها غير التخبط والمزيد من التمزق والإحباط.

يتناوب اثنان على سرد حكايات الرواية وتعميق خطابها حيال عالم الغربة والضياع والتشرذم، هما حنين وعبدالكريم قاسم اللذان تربط بينهما قرابة أبناء خالات . حين تعود حنين من المهجر إلى العراق، بعد ثلاثين عاماً على غربتها، لعلها تجد ما فقدته من أمن واستقرار وحرية قد عادت إلى الوطن، في حين يسرد عبدالكريم قاسم متوالية العذاب التي تحمّلها مع أجيال متنوعة ممن فضلوا أو أجبروا على البقاء في وطنهم. بينما يسرد الواقع والتفجيرات في العاصمة عبر شخصيات عربية سودانية وسعودية وتونسية وسورية وعراقية، أو من خلال وجهة نظرهم يتضح فيها حجم الخراب القادم، وهو في بداياته وصولاً إلى تفجير شارع المتنبي، كناية عن اغتيال العقل وهيمنة وجهة النظر الظلامية.

تروي حنين حكاية المرأة الآشورية التي تسكن في حي كمب سارة وتُجبر مع إبنتها، بعد خطف ابنها الوحيد ثم قتله بطريقة بشعة، على ترك بيتها في بغداد والفرار إلى دمشق. ومن أهم مفارقات هذه الحكاية أن الذي اختطف ابنها ثم صفّاه، هو أحد عمال مصنع «الجكليت» الذي تملكه، وكان هذا العامل الوحيد بين العمال الذي كانت تعامله معاملة أم لابنها.

في مجال آخر يستثمر الروائي أسعد اللامي حكاية ساخرة كان الجنود العراقيون يتندرون بها إبان الحرب العراقية الإيرانية، حين أراد الرئيس أن يزرع الطاعة العمياء في رؤوسهم في إحدى زياراته الميدانية أيام الحرب، سارداً حكاية الفيل الذي يطير وفيها تتجسد طاعة الجنود العمياء للضباط الآمرين بجميع صنوفهم «إذا قال لكم آمركم إن الفيلة تطير فصدقوه». واستثمار هذه الحكاية في الرواية دليل على غياب الوعي وغياب الذاكرة المشتركة حين ترتدي الذات أقنعة الاختباء.

تبنى هذه الحكاية الساخرة على خلفية البوح الذاتي لعبدالكريم قاسم -الشخصية الرئيسة في الرواية- وهو يخاطب ابنة خالته المهاجرة حنين: «للأسف يا زهرتي قد أصدق من يأتي ويقول إن الفيلة تطير» ويعني استخدام هذه الحكاية، إضافة إلى تغييب الإنسان والاسم والهوية وارتداء الأقنعة، أن ينسى الإنسان نفسه، وأن ينسى اسمه وهويته ويصبح طيفاً لا مرئياً في حفلة تنكرية.

عبدالكريم قاسم سارد أساسيّ في رحلة إعادة سرد مكثف لترتيب حوادث الماضي المفجع، بدءاً من ثورة 14 تموز 1958 -يوم ولادته- حتى اليوم الذي فجّر فيه شارع المتنبي، كناية عن تفجير العقل العراقي، ودخوله منطقة مظلمة، وكتعبير عن شلل قوى التغيير التي نشطت منذ الثلاثينات في العراق وضعفت إمكاناتها إزاء قوى أخرى ولدت بعد التغيير، فالسارد يتعرض في الانفجار لقطع ساقه ويده، بعدما فقد إحدى ساقيه في الحرب العراقية الإيرانية، فأضحى من دون ساقين.

عندما يسرد عبدالكريم قاسم تاريخه الشخصي الذي يمثل فئة واسعة من المثقفين، يسميهم السحرة «السحرة الناجون من النار، سحرة الداخل، المتقاعدون، النافضون أيديهم عن السحر» فهو يدخل تاريخ البلاد من أوسع نكباتها: هيمنة الحروب والقتل والتهميش، وسيادة مختلف مظاهر العنف والحصار النفسي والاجتماعي على الناس، لذا يرى في سرد ذكرياته كأنه يشم رائحة البيض الفاسد، ومن أهم ذكريات الموت المجاني والنكوص والإذلال ما يسميه كريم «محفل الغابة التنكري» الذي يكرس التصديق بحكاية الفيلة تطير، حين يكون الاعتراف بالهزيمة المرة الذي لا طائل منه. يعترف ضمنياً بفشل المشروع السحري الذي تنادوا به منذ ثلاثينات القرن العشرين. وخلال تلك الفترة تكون الصفعات والإغراءات والتهديد القانون السائد الذي يؤدي إلى أن يسلّم العشرات أجنحتهم ويتحوّلوا إلى كائنات هجينة لها مشية الغراب وطيران الدجاج الخفيض. أما الباقون الذين لم يسلّموا أنفسهم فقد أصبحوا رهن القفص الكبير ومعاناة العذاب اليومية، مثل الآلاف من أمثالهم في تلك المرحلة المؤذية من تاريخ العراق الحديث.

تبدو الحياة المعاصرة لبغداد في عيون عبدالكريم قاسم وحنين على شكل نفايات تملأ الطرق، وحواجز تقطعها، وبقايا من ماضي حياة المدينة، مثل العربات التي تجرها الخيول، ومتاجر الخردة في كل مكان.

تُروى الحوادث والمشاهد على لسان عبدالكريم ولسان ابنة خالته حنين بلغة شعرية تتخطى المألوف والساكن إلى أعماق النفس البشرية، في رحلة عذاب وتأمل واستشراف، في محاولة من الروائي لكسر رتابة الحياة وميلها نحو القوى الظلامية، بتلك اللغة الثرية التي تشع إنسانية وجمالاً، لكنها تراوح في حدود صورها ومجازاتها وكناياتها مكانها، ولا تستطيع أن ترتفع بالحوادث حيال تغيير مرتقب، فالحياة اتخذت مساراً منحرفاً يصعب تعديله بالكلمات والجمل الشعرية.

خسر عبدالكريم وجماعته «السحرة» رهانهم في إحداث تغيير لمصلحة الإنسان واختاروا مكاناً رومنتيكياً يطل على النهر غاية في الهدوء، بعيداً عن خاصرة العاصمة المكتظة بالزحام والضجيج. ويلخص عبدالكريم رحلته بهذه السخرية السوداء: «هل أهدرت أجمل سنوات عمري من أجل هذا الخراب؟ تحملت ما تحملت من أصناف العذاب لأجل عالم عادل، هل كنت غبياً يلهث وراء سراب؟». أسئلة ما زالت تؤرقنا جميعاً ولا إجابة لها.

في مثل هذه الأجواء يكمل السرد المبروك السوداني الجنسية الذي جاء للاقتصاص من الأميركيين الكفرة في العراق، وليثبت لامرأة تركها هناك اسمها عفاف أنه ليس رقيص عروس، يلتحق بأخيها التيجاني، ظله الذي سبقه في الذهاب إلى العراق، ويقاتلان معاً جنود أميركا التي دنست أرض العراق، ويمثل المبروك رمزاً للذين ينصتون إلى أحلامهم وعواطفهم ويصدقونها على أنها الفردوس القادم، ويصل بهم التصديق إلى حدّ يضحون بأنفسهم لأجل ذلك، فهم على شاكلة غيرهم ممن تسيطر عليهم أيديولوجيا معينة حين ينصتون إلى أنفسهم وإلى من يماثلهم، لذا تكون النتيجة واحدة، ففي الأحوال كلّها الفيلة لا تطير.

يبدو عالم الرواية متشظياً بين ماض تتحكم فيه عواطف شخوصه، السحرة، بهجرة معاكسة نحو الماضي البعيد، وحاضر تحكمه أصوات خفية وجبروت متسلط على شكل مجنزرات ودبابات وجنود مقنعين، لا تظهر منهم سوى أسلحتهم. تضاف إلى ذلك القوى المتخفية التي تظهر في أوقات متقاربة، وهي تعرف جيداً الطرق العامة والفرعية، كأنها سيدة الموقف، تقرر وتفعل وتؤثر في وقائع الحياة في الرواية، في حين تبدو الشخوص الأخرى مشلولة تتخبط في عالمها الروائي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى