الأصول الوطنية… واقتصاد الثقة

د. لمياء عاصي

مع دخول الحرب على سورية عامها الرابع، واستمرار استنزافها المقيت لموارد ومقدرات البلد، يصبح تركيز الجهود لمعالجة الانخفاض الشديد في موارد الموازنة ضرورة وطنية قصوى، هذا الانخفاض وعلى رغم ظروفه الموضوعية وأسبابه، ولكنه وسم الحياة الحكومية وأثر فيها بشكل سيّئ، كما طاول تأثيره السلبي حياة المواطنين وقدرتهم الشرائية، ودفع الكثيرين منهم إلى الهجرة خارج البلاد، وعلى رغم أنّ الدولة السورية أثبتت قدرة كبيرة على الصمود، الأمر الذي لم يتوقعه من أرادوا بها الشرّ، إلا أنّ ثمة أسئلة مهمة وجوهرية في هذا السياق تطرح نفسها، لعلّ أولها، هل تمثل موارد الدولة حاليا… الحدّ الأعلى الذي يمكن تحقيقه، في هذه الظروف التي يعيشها البلد؟ والسؤال الثاني عن إدارة أملاك الدولة، هل تدار هذه الأصول والأملاك بطريقة كفوءة ونزيهة لتعطي أفضل العوائد الممكنة؟ والسؤال الأخير، هل قامت الجهات ذات العلاقة بأي تطوير أو حصر لأملاك الدولة والتعديات عليها أو مراجعة لطرق إدارتها… خلال السنوات الأربع الماضية على الأقلّ؟ معظم الإجابات على تلك الأسئلة السابقة… ستكون حتماً بالنفي… وهذا معروف لمعظم المتابعين للشأن الوطني.

تحتلّ الأملاك والأصول الوطنية مرتبة هامة بين مصادر الإيرادات الموازنية للدول، وعلى رغم عدم وجود تقديرات دقيقة لحجم وقيم وأملاك الدولة السورية، ولكن الحقيقة هي أنّ حجمها كبير جداً، والجميع يعرف أنه خلال السنوات الماضية، جرت تعديات وتجاوزات على هذه الأملاك التي هي في معظمها أراض وعقارات، وحصل توزيع وتأجير مساحات واسعة جداً خلال العقود السابقة، وبمقابل زهيد جداً، لا يتعدّى مئات أو بضعة آلاف الليرات…! ولا أحد يعرف، كيف تمّ استثمار الملكيات الزراعية والعقارية؟ وفي ما إذا كانت هذه الطريقة الأفضل والأمثل… وبحسب قواعد ومعايير للأداء والمحاسبة صارمة وشفافة.

الصحافة المحلية تحدثت عن تجاوزات وممارسات غير قانونية بحق ممتلكات الدولة، خصوصاً من مسؤولين تجاوزوا على هذه الأملاك واستخدموها لمصالحهم الخاصة، مستغلين غياب مؤسساتي وإطار قانوني في هذا الموضوع، ومن المعروف أنّ أهمّ النقاط السلبية في عملية إدارة أملاك الدولة، أنها تدار بطريقة أساسها العقلية البيروقراطية، التي لا تصلح اليوم لإدارة أصول وعقارات بالمليارات، وهذا يتمّ من قبل مديريات مشتتة بين الوزارات، مثلاً، مديرية «أملاك الدولة» في وزارة المالية، وكذلك إدارة مماثلة في وزارة الزراعة، وفي وزارات أخرى، تقوم بشكل رئيسي بتوثيق الأصول التابعة لها، أما إدارة واستثمار هذه الأصول ومعالجة مشاكلها، فتتمّ من خلال لجان تشكل لهذا الغرض، وتستمرّ بعملها أحياناً لعقود من دون إنجازات تذكر، وتعمل من دون آليات محددة للتدقيق والمحاسبة.

إذا انتقلنا إلى التجارب العالمية في هذا المجال، نجد أنّ الأصول الحكومية تدار من قبل مؤسسات تشبه الصناديق السيادية، من حيث البنية المؤسساتية والحوكمة والقوانين الناظمة، لضمان أفضل العوائد من هذه الأصول وتسمّى أملاكها بالأصول الوطنية… وتدار بطريقة فيها مشاركة مع المواطنين، لأنها في الحقيقة، أملاك مجموع مواطني الدولة، ومن حقهم أن يشاركوا في ملكيتها وإدارتها بنفس الوقت.

في مسيرة النهوض الاقتصادي التي بدأتها ماليزيا في الثمانينات من القرن الماضي، قامت بهندسة بنية اقتصادية مؤسساتية أو ما عرف بـ«اقتصاد الثقة»، تقوم على مفهوم أساسي وهو الثقة وإتباع سيناريو الربح المشترك لكلّ من الناس والدولة، وفي هذا الإطار، تمّ استحداث «مؤسسة الأصول الوطنية» لتتولى إدارة أصول وأملاك الدولة من خلال إصدار وبيع أسهم للمواطنين من ملكية هذه الأصول، بحسب قانون الشركات الماليزي، وهكذا قامت الحكومة الماليزية بتعبئة مدخرات المواطنين واستخدامها في استثمار وتطوير الأصول الوطنية وشاركتهم في إدارتها، كما تخلصت من الطرق الإدارية والبيروقراطية المتخلّفة، اليوم مؤسسة الأصول الوطنية التي يتمّ تداول أسهمها في سوق الأوراق المالية، تعتبر من أغنى المؤسسات التي تشكل عائداتها رافداً مهمّاً لإيرادات الدولة، وتعتبر من أكبر المساهمين ضريبياً في موارد الموازنة، إضافة إلى دورها الواضح في الاستثمار والتشغيل وخلق فرص العمل أيّ دوران العجلة الاقتصادية وصولاً إلى تحقيق التنمية الشاملة التي تسعى إليها كلّ الدول كهدف منشود.

حتى لا يكون الكلام، مجرّد كلام نظري، أو غير واقعي… نتيجة لسوء الوضع الحالي في استثمار أملاك الدولة، وحتى لا يتمّ تفسير ما ورد آنفاً، بأنه دعوة لبيع أملاك الدولة، ولإعادة توضيح المقترح في حالة سورية، يمكن اتخاذ الإجراءات التالية:

إحداث مؤسسة عامة للأصول الوطنية، تُنقل لها ملكية أملاك الدولة، سواء تلك التي تملكها وزارة المالية أو وزارة الزراعة وغيرها من المؤسسات بشكل تدريجي.

والمؤسسة تحدث شركة مساهمة، تكون أسهمها متاحة بنسبة 49 في المئة للاكتتاب من قبل المواطنين، بحدّ أعلى للشخص الواحد، أن لا يتجاوز عدد معيّن من الأسهم أو بنسبة أقلّ من 1 في المئة من إجمالي أسهم الشركة.

تدار الشركة المساهمة وفق القواعد والآليات الواردة في قانون الشركات، وتوزع الأرباح على المساهمين بحسب ملكياتهم.

يقوم مجلس إدارة المؤسسة بوضع السياسات العامة، ومتابعة نتائج أعمال شركة الأصول الوطنية المساهمة ومحاسبتها على نتائج أعمالها.

إنّ التغيير الجذري للبنية المؤسساتية لإدارة شؤون الدولة في المجال الاقتصادي، بات أمراً ملحاً وضرورياً، إذ لا يمكن أن تستمرّ الدولة بإدارة أصولها وأملاكها، التي تبلغ المليارات، وفق آليات بسيطة قديمة ومشتتة، ومن قبل إدارات تقليدية بموظفين ليسوا مؤهّلين لمثل هذه المهام ولا يمتلكون الصلاحيات ولا الإمكانيات اللازمة للنهوض بمثل هذه الأعباء، لا بدّ من التغيير إذا ما أردنا المضيّ في تحسين وتطوير الإيرادات العامة للدولة.

وزيرة سابقة في سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى