زيّنوا المرجة… سورية عروس المجد

لورا محمود

دمشق مدينة التاريخ والحضارة والحياة النابضة بالعشق والآهات والتناقضات، مزدحمة وخالية، غنية وفقيرة، هادئةٌ تلامس فيها الشمس لحظة غيابها، صاخبةٌ يهرب منك هدوء صبحها سريعاً لحظة استيقاظها بشوارعها وحاراتها وأزقتها وساحاتها التي ما زالت الى اليوم حضارة بأهميتها وموقعها، وأيضاً كملتقى للدمشقيين بمختلف مشاربهم، فساحة المرجة صورة حية للاكتظاظ السكاني والازدحام الكبير فهي مكان لا يعرف النوم، خليط ما بين القديم والحديث، الشعبي والفخم، الوطني والأجنبي، كان البعض يطلق عليها اسم الجزيرة أو بين النهرين، ومن ثمّ أطلقوا عليها المرجة بسبب غناها بالأشجار، هي مكان يعجّ بجمال الحياة وقسوتها.

ساحة المرجة، أو ساحة الشهداء، كانت شاهدة على عزة من صمدوا وظلم من تجبّروا، ففي أواسط شهر أب من عام 1915 ألقى جمال باشا السفاح القبض على عدد من المفكريين من سورية ولبنان بتهمة تعاونهم مع فرنسا الاستعمارية التي كانت تعادي الدولة العثمانية آنذاك، وبعد محاكمة صورية حكم عليهم بالإعدام شنقاً حتى الموت بتهمة خيانة الدولة العليّا، ثمّ نُفذ الحكم في ساحة المرجة التي سُمّيت في ما بعد بساحة الشهداء، لتكون هذه الساحة شاهداً على أفظع جريمة ترتكب بحق نخبة من رجالات العلم والفكر والسياسة، كما شهدت المرجة أحداثاً سياسية أخرى مهمة، ومنها إعدام أبطال الثورة السورية الكبرى عام 1925 الذين كانت فرنسا تلقي بجثثهم في ساحة المرجة بغية نشر الرعب في النفوس.

أهميتها المركزية

هي ساحة مشهورة في وسط دمشق، ففي وسطها ينتصب معلم من معالم مدينة دمشق وهو العمود الشهير الذي بُني قبل مائة عام، وبُني على هذا العمود مجسّم لجامع هو الأصغر في العالم وسُمّي هذا النصب نصب «التلغراف»، وجاء هذا العمود والمجسّم تذكاراً لتدشين الاتصالات بين المركز دمشق والمدينة المنوّرة والبلاد الإسلامية في أواخر العهد العثماني متزامناً مع إطلاق الخط الحديدي الحجازي من مدينة دمشق ومحطة القطارات المجاورة لساحة المرجة، وقد أقيم العمود والنصب التذكاري سنة 1907 أيام الوالي العثماني حسين ناظم باشا ولا يزال إلي اليوم، حيث كانت دمشق، والتي أطلق عليها العثمانيون اسم «شام شريف» من أهمّ المدن في الامبراطورية العثمانية بعد اسطنبول.

وفي أواخر العهد العثماني كانت ساحة المرجة مقراً لعربات التنقل التي تجرّها الخيول، وكانت هذه الخيول تقف إلى الجانب الشرقي تحت ظلال شجيرات الصفصاف حول حوض ماء مرتفع قليلاً لتشرب منه خيول تلك العربات وهي معدّة لنقل الناس بين الأحياء وخاصة المرضى منهم. وفي ما بعد تحوّلت المرجة إلى مكان لانطلاق حافلات النقل الجماعي إلي المدن السورية وإلى حارات دمشق وريفها. وشهدت ساحة المرجة كذلك أول انتشار للأتمتة الآلية بدخول الترام أو الحافلة الكهربائية «الترامواي» إليها سنة 1907 وسيره في شوارع مدينة دمشق، ومن ثم السيارة التي دخلت إليها عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918، وكان الدمشقيون يسمونها «أتونبيل»، إلى جانب سيارات الأجرة الكبيرة التي كانت تؤمّن السفر إلى خارج المدينة وتُعرف بالبوسطة، وسيارات القاطرة والمقطورة للنقل عبر الصحراء ثمّ حافلات النقل الداخلي ضمن المدينة التي بدأت بالسير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945.

وفي خمسينات القرن الماضي أصبحت المرجة المكان الرئيسي لانطلاق حافلات السفر الجماعي إلى جميع المدن السورية، وتحوّلت محلاتها الكبيرة إلى مرائب خاصة بكلّ مدينة تنطلق منها وتأتي إليها سيارات الركوب الصغيرة، فكان جميع السوريين القادمين إلى العاصمة دمشق يحطون رحالهم في ساحة المرجة قبل أن يستقلوا الترامواي أو حافلة النقل الداخلي في ما بعد ليذهبوا إلى مقاصدهم في العاصمة. وقد انتهى دور ساحة المرجة بشكل نهائي كمرآب رئيسي للمدينة مع سبعينات القرن الماضي حيث تأسّست مراكز انطلاق حديثة.

وقد شهدت ساحة المرجة طوفان نهر بردى المتكرّر الذي كان يُسمى الزورة أو الفيضان، إثر الأمطار الغزيرة التي كانت تغمر الساحة والأسواق المجاورة. وكان نهر بردى في بدايات القرن التاسع عشر يتفرّع في هذه الساحة إلى فرعين يحتضنان جزيرة صغيرة غنية بالأشجار، وحالياً وبعد أن قلّ منسوب نهر بردى لم يبق من الساحة سوي ممرّ النهر.

أهمّيتها الثقافية

تضمّ المرجة عشرات الأبنية المختلطة ما بين العمارة القديمة والحديثة، الشرقية منها والأوربية، وشهدت المرجة تأسيس فنادق دمشق الحديثة أوائل القرن الماضي بعد انتهاء دور الخانات، كما عرفت المرجة أول دور للسينما في دمشق، إذ تأسّست فيها سينما زهرة دمشق عام 1918 وأغلقت سنة 1928 ثمّ تأسّست سينما «الإصلاح خانة» عام 1921 وسينما «الكوزموغراف»، ومن بعدها صارت سينما: غازي وسنترال وفاروق والنصر ، كذلك انتشرت في الساحة المقاهي، ومن أقدمها «مقهي ديمتري «و»مقهي الكمال» و»علي باشا» و»الورد». وشهدت ولادة المسارح الدمشقية، ومنها مسرح «زهرة دمشق «و»النصر» و»مسرح القوتلي» الذي تأسّس في بدايات القرن العشرين وانتهى بحريق سنة 1928، وكان يغني فيه مشاهير المطربين والمطربات. وفي عهد السلطان عبد الحميد أقيمت في المرجة مبان حكومية جديدة ضخمة وفق أساليب العمارة الأوربية الحديثة، ومنها مقرّ «دار الحكومة» و»دائرة البلدية» و»إدارة الترامواي» و»إدارة البريد» و»دائرة العدلية» و»مستودع الذخائر الحربية» و»دائرة الأملاك السلطانية» و»ثكنة التلغراف» و»مبنى العابد» الذي ما زال قائماً حتي الآن.

تعتبر ساحة المرجة بمثابة الذاكرة الحية لتاريخ دمشق فقد شهدت أحداثاً سياسية وتاريخية مهمة وكانت شاهداً أيضاً على بطولات رجالات سورية أثناء الثورة السورية الكبرى، فهي تروي حكاية من تعطرت هذه الأرض بدمائهم ليحيا الإنسان والوطن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى