الطوائف والسيادة ٣

نسيب أبو ضرغم

لقد استهدفنا من إلقاء الضوء على علاقات بعض زعماء الطوائف اللبنانية بمسؤولي الوكالة اليهودية القول إن ما عاشه وعاناه هذا البلد الصغير من محن وكوارث وحروب وأزمات على المستويات كافة، إن هو إلاّ نتيجة حتمية لما أسّسه «آباء الاستقلال اللبناني»، من حيث تكريس الطوائف كمكوّنات سياسية، ثقافية عسكرية، اجتماعية، جُمعت لتصبح في ما بعد «الشعب اللبناني». إن المرحلة التي بدأت عام 1913 مع تسجيل أول لقاء للمنظمة الصهيونية بلبنانيين، والتي لم تنتهِ على ما يبدو حتى اليوم، هي المرحلة ـ الرحم التي تكونت فيها الدولة اللبنانية على قاعدة اعتبار الطائفة عنصراً مكوّناً في الاجتماع اللبناني.

لِنرَ إلى رياض الصلح، وهو أحد «آباء الاستقلال»، وقد دعا إلى عقد المؤتمر السوري العام الذي انعقد في 23/6/1920 مطالباً بالوحدة السورية. هو رياض الصلح عينه، ذاته، يلتقي حاييم وايزمن عام 1921.

تقول لورا زايتراين إيزنبرغ: «بدأ الصلح صلاته مع المنظمة الصهيونية بلقاء له مع حاييم وايزمن في لندن عام 1921، وقد دُعِّمت هذه الصلات لاحقاً عبر وسيطين أصبحا من أصدقاء الصلح، وهما الناشطان الصهيونيّان مارغوليس كالفارنسكي وإيتامارين آبي. وعرض الصلح على الوكالة اليهودية أن يقوم بالوساطة لإجراء محادثات بين الفلسطينيين والمكتب الصهيوني في لبنان! من كتاب عدو عدوي ـ ص 35 ـ لورا زايتراين إيزنبرغ، بحسب هوامش الكتاب Eaplan, Futil Diplomatiec, vol.L.p.54

راجع أيضاً: يهوشوا بوارث «الحركة القومية الفلسطينية العربية»، ص 112 ـ 114 ـ أيضاً حوار م سانتير «تاريخ إسرائيل» ص 168 .

جريدة البناء ـ العددان 981 و982 ـ تاريخ 17 ـ 7 ـ 1999 ـ ص 76 .

لنتصوّر شخصاً هو عضو في مؤتمر قومي يطالب بوحدة سورية الطبيعية عام 1920، وبعد أقل من عام يقترح على الوكالة اليهودية إجراء محادثات مع الفلسطينيين ومع المكتب الصهيوني في لبنان؟! ـ أي مع سفارة الوكالة اليهودية غير المعلنة في بيروت والتي كان الصلح يبدو على اتصال بها.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، فها هو رياض الصلح عام 1934 يلتقي في القدس بن غوريون، ويورد بن غوريون وقائع لقائه برياض الصلح كالآتي: «في أوائل حزيران 1934 وصل رياض الصلح إلى القدس، اجتمعت إليه بحضور حاييم وايزمن الفارسي الأصل، وهو أحد المسؤولين عن القسم العربي في الدائرة السياسية التابعة للوكالة اليهودية». ويتابع بن غوريون «أعرب الصلح عن عزمه على العمل لأجل تفاهم عربي يهودي، وقال إنه سيبدأ العمل مع مجموعات صغيرة من أصدقائه، وتساءل عن طبيعة الاتفاق الذي يرغب فيه، فعرضت عليه النقاط الخمس الآتية:

1 ـ حرية الهجرة اليهودية إلى فلسطين وعبر الأردن من دون أي قيود سياسية.

2 ـ إبقاء العرب جميعهم في فلسطين على أساس أن تُقدّم إليهم المساعدات لأجل تحسين ظروفهم الاقتصادية والثقافية.

3 ـ اشتراك العرب واليهود طيلة فترة الانتداب بشكل متكافئ.

4 ـ الاستقلال اليهودي في فلسطين.

5 ـ إقامة علاقات بين الدولة اليهودية في فلسطين والاتحاد العربي المستقل الذي يشمل البلدان المجاورة».

يكمل بن غوريون قائلاً: «قال الصلح إنه يُعدُّ هذا العرض بمثابة أساس للتفاوض، وأعرب عن اهتمامه بالنقطة الأخيرة، وأضاف أنه سيلتقي الزعماء الآخرين للحديث معهم حول هذا الموضوع، وطلب أن تبقى محادثاتنا سرية، كما طلب أن يكون العرض مكتوباً، وبالفعل فقد أعد أهرون حامييم كوهين النص العربي».

الاتصالات السرية العربية ـ الصهيونية ـ أمين مصطفى ص 85 ت 86.

تقول لورا زاتيران ايزنبرغ في كتاب «عدو عدوي» ص 142 الآتي:

«قدّم رياض الصلح نفسه إلى الوكالة اليهودية على أنه يتمتع بنفوذ كبير ضمن التيارات القومية في لبنان والشام، وقطع وعوداً أمام بن غوريون وشرتوك موشي شاريت عام 1934 العام نفسه الذي وقع فيها الصلح مع بن غوريون الاتفاقية الواردة أعلاه يدعم «دولة يهودية» في فلسطين، وقال وقتها في رسالة من الصلح إلى وايزمن، إنه «يستطيع بإمكانات اليهود المالية إقناع العرب يعني بالرشوة باستصدار وعد بلفور عربي كأنه لم يكفِ وعد بلفور البريطاني يقنع الفلسطينيين بقبوله عدو عدوي، ص 142 . … فأفهمته الوكالة اليهودية بأن دعم اليهود لأي مشروع «عربي» سيؤدي إلى إغضاب الموارنة في لبنان، الذين سيشعرون بأنهم أصبحوا أقلية قابلة للذوبان في محيط «مسلم». ولذلك عليه أن يعرقل لنر لغة الأمر أي مشروع من هذا النوع، وأن يقف في وجه مشروع وحدة سورية الطبيعية، لأنه يخيف شركاءه الموارنة ويتعارض مع مصلحة لبنان وإسرائيل». البناء ـ العددان 981 و982، تاريخ 17 ـ 7 ـ 1999، ص 77 .

في إحدى رسائل رياض الصلح إلى بن غوريون عام 1939 يقول الصلح: «إن التيارات التي تطالب بوحدة سورية الطبيعية ضعيفة، وليس لديها مؤيدون في لبنان وسوريا على السواء، وإنه أي الصلح يتعهد باستعمال نفوذه لخنقها عند «اللزوم» . تصوروا يتعهد بخنق تيار الوحدة السورية لأنه يتعارض مع مصلحة «إسرائيل» . راجع: رسالة من وايزمن إلى فليليكس م. واريورغ 15 ـ 5 ـ 1939. الرسالة 1272، البناء، العددان 981 ـ 982، تاريخ 17 ـ 7 ـ 1999، صفحة 77 .

ثم استنتاجات خطيرة جداً يمكن أن تتحصل من كلام الوكالة اليهودية إلى رياض الصلح.

ومن رسالة رياض الصلح إلى بن غوريون.

إن كلام الوكالة اليهودية حول غضب الموارنة من أي مشروع وحدوي، رسالة واضحة إلى الصلح ليعمل على قاعدة الطوائف، وليس على قاعدة المشروع القومي. ذهب الصلح فعلاً هذا المذهب حينما راح يؤسس لما سمي «بالميثاق الوطني» وهو في جوهره توافق طوائفي هش قائم على نفيين negation عجيبين، إلى حد دفع بالصحافي جورج نقاش إلى القول: Deux negations ne font pas de nation أي «نفيان لا يصنعان أمة». لكن الصلح اعتاد على مثل هذه التوليفات العقيمة. ألم يتوافق مع بن غوريون عبر الاتفاقية المشار إليها، على أن تكون فلسطين وطناً لليهود، وفي الوقت عينه تقديم المساعدات إلى الفلسطينيين لتحسين أوضاعهم الثقافية! أيّ أوضاع ثقافية في ظل دولة يهودية .

إنهما نفيان عجيبان، لا للشرق سورية ولا للغرب فرنسا ، كأن لبنان غير مرتبط تاريخاً وجغرافيا وديمغرافيا ومصالح ودورة حياتية مع محيطه القومي. نفيان فرضا مساواة كافرة بين المنتدب والرحم الطبيعية. النفيان العجيبان هما محصلة اتفاقية «سايكس ـ بيكو» ومفاعيلها السياسية والاجتماعية، كما أنها تطبيق حرفي لتوجيهات بن غوريون لرياض الصلح في الرسالة المشار إليها سابقاً، والتي ينبه بن غوريون رياض الصلح عبرها إلى عدم إغضاب الموارنة، ومحاربة أي دعوة إلى الوحدة السورية، ما يعني تأسيس لبنان على قاعدة الطوائف.

«لبنان ليس مقراً وليس ممراً»… «لا للشرق ولا للغرب»… وطن يتأسس على النفي مع ميل وإصرار للترابط الثقافي بالغرب راجع البند الثاني من مسودة اتفاق الميثاق الموضوعة في عاليه منزل بشارة الخوري مع رياض الصلح التي تقول: «لبنان ذو وجه عربي، ولسان عربي قلبه وعقله ووجدانه لم يجر التطرق إليها . له طابع خاص، ولكنه مع عروبته هذه عروبة الوجه واللسان لا يقطع علائقه الثقافية والحضارية التي أقامها مع الغرب» باعتبار أن هذه العلائقة ساعدته في الوصول إلى الرقي الذي هو فيه .

لنحلّل النص: 1 ـ عروبة هي في حدود القناع الوجه وفي حدود اللغة… أي أنها من المضمون الحضاري الوطني والقومي، بلغة المحامين هي شكل.

2 ـ في الأساس: أساس لبنان يعني مضمونه غربي وهو بحسب النص مدين للغرب بـ«رقيّه» ويريد أن يستكمل اتجاهه الحضاريّ غرباً. هل يوجد نص أوضح من ذلك، ويسمونه ميثاقاً وطنياً. وهل أن الثقافة والحضارة الغربيتين تضمنان السيادة الوطنية؟ وكيف تكون الثقافة والحضارة مفصولتين عن القرار الوطني؟! واضح إن رياض الصلح تراجع منذ عام 1921 عن اتجاهه الوحدوي وتوافق في عام 1943 مع دعاة التغريب والانفصال والانعزال على فصل لبنان عن محيطه الحضاري والطبيعي بالقبول بأن يكون اتجاهه الحضاري والثقافي نحو الغرب. في المقالة المقبلة سنفصل أكثر آثار «الميثاق الوطني» في الصيرورة اللبنانية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى