شَرفُ السِيادة الوطنيّة

عدنان كنفاني

الأزمات التي تمرّ على الدول والأمم، مهما كانت شدّتها، تشكّل علامةً إيقاعها مؤلم، وتداعياتها أكثر إيلاماً، وتشكّل، في الوقت نفسه، مرفقا مفصلياً وناقوس خطر يدق بقوّة يعلن أن هناك خطأ ما «سياسي اجتماعي اقتصادي إنساني» يجب تصحيحه، ويفرض بالتالي على النخبة «كلّ باختصاصه» للبحث وملامسة الحالة بصدقية، لدراسة أصلها وأسبابها وتداعياتها، ثم البحث الجدي الواعي عن أنجع الحلول.

فهل آن الوقت لنقف ونراجع حساباتنا وسط مجريات الأزمة التي تمرّ فيها سورية؟

أم سيخرج من يقول بأن علينا أن ننتظر حتى نهاية الأزمة ثم نسبر الحالة، ونبحث عن الأسباب!

وفي سبيلنا إلى ذلك، يفرض الحال أن نكون على مستوى عال من الشفافية، وأن نتخلّص من كل الزيف والاسترخاء الذي راكم على مسيرة حياتنا، أطناناً من الأعباء العبثية التي لم تكن تعني لنا شيئاً غير متعة ذواتنا في وطن مستقر وأمين سرّبَ من بين أيدينا القيمة المثلى في تكريس الانتماء الأصيل للوطن، لكننا لم نقدّر، ولم نطوّر، إلى أن فجّرت الأزمة بكل مجرياتها، البراكين التي كانت خامدة، ووضعتنا وسط دائرة، نفتّش، ولا نجد غير فراغ وأسئلة ودهشة واستغراب.

إنني، مثل غيري، نكاد نبلع الحسرة المستقرّة في حلوقنا ولا نجرؤ على إعلانها، وكلنا يعلم أننا لو بققنا البحصة ستكشف عن بلاء كثير كان يسري في عروق الأمّة محمولاً على كثير من السلبيات الاجتماعية، ثم تناثرت حطاماً لتصيب كل منّا شظاياها.

هذه الأزمة، التي تكالبت وشاركت فيها قوى الشر من كل مكان على وساعة هذا العالم لغاية واحدة، وهدف واحد هو باختصار إسقاط سورية ، وتعلن بمجرياتها الحادّة أن المطلوب «رأس سورية» بغض النظر عن كل الشعارات المراوغة الأخرى. هذه الأزمة كشفت أيضاً عن هشاشةٍ في بعض سلوكنا الاجتماعي والتربوي والإنساني، وقد كشفت أيضاً عن واحات من روعة الانتماء من شباب طليعي، نعوّل عليه لمستقبل أفضل، وأضاءت أيضاً على رجال القوات المسلحة وقدرتهم الباذخة على جلّ العطاء والبذل من أجل وطن يعتزون بالانتماء إليه، ويصنعون انتصاراته.

ويفرض عليّ الحال في هذه العجالة أن أشير، ولو إشارة، إلى مكمن الأمراض التي نعاني منها، موجعة هي، لكنها السبيل إلى الحل، وعلينا أن نعترف أن الفساد كشف عن فساد وإفساد، والجشع راكم شهوة الجشعين أضعافاً، وكشف بشكل سافر وجه الذين أسرفوا في سرقة أقوات الناس بالغش والاحتكار، هم من هَربَ وهرّب ما استطاع أن يحمل من مال ومتاع إلى خارج الوطن، ومن بقي منهم، فهو أكثر من يعمل على استغلال حاجة وفقر الناس ويمتصّ دماءهم بدم بارد، كما أن أشباه أدباء وفنانين حملوا أوسمة الشهرة التي منحتهم إياها سورية، وخرجوا يشتمون وينظّرون ويستعذبون عمالتهم وخيانتهم وجحودهم.

هي سلوكيات موجعة، لكننا، ونحن نضع الإصبع عليها، نبحث عن حلول، وكان من المفترض أن نبحث عن الحلول منذ زمن بعيد مضى، وأول هذه الحلول، وقد يكون أصعبها على الإطلاق يكمن في إعادة تأهيل الإنسان، أخلاقيا وتربوياً واجتماعياً، وإعادة بناء وعيه.

إننا في خضمّ أزمة، هي حرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى وتصوّر، حرب لم يشهد التاريخ ولا الجغرافيا لها مثيلاً، سواء بحجم الحاشدين لها سلاحاً وأموالاً ومقاتلين، أو بمستوى ما ارتُكب فيها من مجازر بشعة وتدمير وقتل مجاني واغتصاب وسرقة يندى لها جبين الإنسانية ونحن في مطالع القرن الواحد والعشرين، في عالم يمارس أبشع صنوف الظلم، يرفع شعارات تبدو جوفاء عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنظمات دولية، وجمعيات الرفق بالحيوانات أيضاً.!

ومهما كانت قسوة هذه الأزمة وحدّتها وبشاعتها وحجم التضحيات، وهذه الحرب، فهي، كما أرى، أسهل من حرب ستبدأ بعد انتهاء الأزمة لإعادة ترتيب حياتنا وأولوياتنا تربوياً وفكرياً ودينياً أيضاً، وإيقاظ الوعي، وقائمة استحقاقات مهمة تطول، فهي تطاول كلّ مناحي حيواتنا بشكل عام، وهذا يحتاج إلى حشد غير مسبوق يضع بدايةً الشخص المناسب النظيف، في المكان الذي يناسب تخصصه وقدراته.

وتفرض علينا التداعيات الغريبة أن نعيد ترتيب وتطوير خطابنا السلوكي بشكل عام، والثقافي بشكل خاص، وقد يكون تأصيل التوجّه الديني الراشد في مقدمة الأولويات.

لقد تعرّضت سورية، وللأسف، إلى ظلم بيّن، لا أتحدث عن ظلم الغرباء بل عن ظلم بعض أبناء سورية أنفسهم الجاحدين والعاقّين الذين ارتووا من ماء سورية، وتبوؤوا مناصب ومراكز وشهرة وجاه ومال، «أدباء وفنانين ورجال أعمال ورجال دين ومثقفين»، ارتبكت حساباتهم ووقعوا بالمحظور بالإساءة إلى سورية وهي التي غمرتهم بالفضل، ولست أدري كيف يمكن أن يستعيدوا حضورهم بعد كل ما بدر منهم.!!

إن سورية وهي تعبُرُ، بصمودها وبذلها وتصميمها وشرف سيادتها، هذه الأزمة، وتحقق الانتصار الكبير، تستحق بكل يقين أن تكبر أكثر، وتتطوّر أكثر، وأن نكبر بها وهي تشعّ منارةً على الأمم.

وكي نحقق هذا الطموح، علينا أن نعمل بجد وإخلاص وشعور بالكبرياء والانتماء، وحسابات جديدة واعية كي لا تعود ماكنة الفوضى تعبث بالوطن وهو الباقي الأبدي لنا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى