بلاد العُرْب أوطاني!

صادق النابلسي

لطالما سال حبر كثير حول مفهوم الوحدة بين الأقطار العربية. كتّاب وشعراء وفنانون ومفكرون كبار تخيّلوا بإلحاحٍ بريء وتحفّزٍ عاطفي إمكانية أن يكون العالم العربي من الشام لبغدان ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصر فتطوان أرضاً واحدة وثيقة الصلة بالإنسان وحرياته، شديدة الالتصاق بهويته وثقافته. مضى قرن والكلام حول هذه القضية أشبه بالحلم في مهبّ الريح. قضية بقيت تلامس الخيال ولم تستطع أن تقترب من الواقع. ليس لقصور في التخطيط والمقاربات بل في التربية والوعي والسعي والتضحية. الأنظمة لم تكن مقتنعة أصلاً بالوحدة، والشعوب لم تُفلح في تجاوز خلافاتها الدينية وانغلاقاتها الإتنية والطائفية. القادة العرب لم يُفسحوا لحضور الفكرة في اهتماماتهم. أعطوها فقط طابعاً أثيرياً تتجه إلى فراغ أكيد. أمّا الجماهير التي لم تستطع كسر السياق الخارجي والتاريخي، فالفكرة لم تتجلَّ في حياتها إلا على صورة خطابات أيديولوجية تعبوية عمادها الرصف التجريدي بلا عمق ولا هدف واضح خارج تراكمها الشكلي.

الكلام الذي نسوقه ليس تبكيتاً للضمير ولا نبسطه من باب البكاء على الأطلال أمام حفلة الهدم المتاحة اليوم لمن يشاء من قوى دينية وإمبريالية تألف الفكّ والتركيب، بل للإشارة إلى فشل مشروع لم يحمل قدراً وازناً من الوقائعية. «العالم العربي» الذي بقي حتى اللحظة مفهوماً غير مفهوم على نحو الكفاية لمعظم العرب، تراجعت أهميته إلى حدود التسمية المحبّبة والتداول الإعلامي فقط، وتهشّم ككينونة في الأشياء والوجود. خطأ من اشتغل على هذه القضية اعتباره العالم العربي امتداداً في المكان فقط، أو شكلاً إقليمياً تحكمه مصالح المتواجدين داخله، أو إطاراً للتضامن القومي، أو كتلة جغرافية تهيمن عليها هوية تاريخية أو نحو ذلك مما يصبّ في عملية التشبيك الجغرافي والاندماج السياسي من دون النظر أنّ العامل الأهم في التوحيد قوامه الحوار السياسي والثقافي والديني الذي يتطلب سياسات دؤوبة على حسن التفهّم والتقارب، وسيرورة واعية من التفاعل والتواصل تتجاوز كل عامل خلافي بسبب الانتماء الطائفي أو العشائري أو العرقي وغير ذلك. كان المطلوب المساهمة في توفير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكّن العرب وغيرهم من القوميات العيش بلا حروب وصراعات من خلال تأمين دفق كافٍ من العلاقات البنّاءة والعاقلة تعكس الاحترام والحرية والتعددية والتسامح ضمن إطار عام لثقافة مشرقية تتنفس قدراً كبيراً من الهواء الإنساني النقي ولو أتى من بلاد الكفر والطغيان ، لكن لا وقت الآن للتذمر!. المفارقة التي تعيشها الجماهير العربية اليوم تكمن في أنّ الدعوة إلى الوحدة، والتلهف إلى تحقيقها، حين برزت إبّان حقبة الاستعمار الأولى التي رسمت خريطة سايكس- بيكو، كانت مترافقة مع صعود حركات تحرر وطنية ومدّ قومي اجتاح الساحة العربية، وواكبتها آمال وتطلعات إنسانية وحضارية وأخلاقية شكلت اتجاهاً إلى المستقبل، في حين أنّ جحافل الاستعمار الهاجمة على منطقتنا في هذه الآونة تموج من أعطافها داعشيات بربرية تنشط على خط التقسيم والتفتيت وتحمل ما تحمل من الأوبئة والمفاسد وكأنّ المنطقة تؤول إلى نهايتها المأسوية!.

من أدبيات الحقبة الذهبية تلك، أنّ الوحدة ضرورة تاريخية واستراتيجية، على قاعدة تجاوز الدول القطرية لا نفيها، وفي إطار خطة توسيعية، واضحة منهجياً وأيديولوجياً، مصممة على أن تتطابق داخلها الصيغة السياسية مع الصيغة الجيوسياسية. كان ذلك في ما مضى قبل أن يضرب النكوص أوتاده على معظم الساحات وقبل أن تطمس الداعشية كل الأحلام الثورية الرومانسية. اليوم، في عصر التغيّرات الهائلة والسريعة الأخطار في عالمنا العربي أكثر من أن تُحصى. إذ ليس ثمة حريق واحد. كل عالمنا العربي، الذي لم يعد يعمل على قيود إعادة التوحيد، يحترق بما يليق بــ دولة الخلافة الاستثنائية. جرّب العرب الاستبداد، الاستعمار، الراديكالية، الملكية، الأوليغارشية، الإخوانية…الخ واليوم جاء دور النزعة التكفيرية التي بموجبها يتهيّأ التكفيريون الجدد للقيام بدور المخلص .

تشعر الحركة الوحدوية ومعها القطرية بإخفاق بائس. الأولى في مأزق النموذج، والثانية في مأزق الاستمرارية. المهمة الأولى في هذه اللحظة الراهنة هي كيف يطفئ العرب النار؟ على رغم أنها مهمة شاقة وعسيرة، بدل أن يظلوا مشدودين وهماً إلى جنّةٍ بينما الذي ينتظرهم هو الجحيم!.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى