عدل قانونيّ وعدالة اجتماعيّة أرّقا الإصلاحيّين والفلاسفة على مرّ الحقب والعهود

جورج كعدي

العدالة الاجتماعيّة والعدل القانونيّ مسألتان شديدتا الأهميّة للمفكّرين اليوتوبيّين، حتى أنّ سعادة الأفراد والمجتمعات تُنشد من خلالهما، ولا يختلف المفكّر الإصلاحيّ الإنكليزيّ الكبير توماس مور More 1477 ـ 1535 عن أيّ من هؤلاء، علماً أنّه كما ذكرنا آنفاً هو أوّل ناحتي كلمة Utopia عن أصلها اليونانيّ من كلمتي ou لا وTopos مكان ، والكتاب الأشهر والأبرز لمور عنوانه «يوتوبيا»، واضعاً تصوّره للدولة «اليوتوبيّة» في مكان غير محدّد زاد لدى قرّائه حيرة وغموضاً. فبعد مرور نحو خمسة قرون على وضعه، ورغم كثرة الشروح والدراسات حوله، ما انفكّ هذا الكتاب لغزاً محيّراً، فهل هو مجرّد كتاب ساخر ومسلٍّ فحسب، أم يمكن المطابقة بين أفكار مور وتلك التي لسكّان «يوتوبياه»؟ قد يساعد في فهم هذه «اليوتوبيا» أن تنذكر أنّها وُضعت في فترة انتقالية كانت حركة النهضة تؤذن فيها بولادة حركة الإصلاح الدينيّ بكل ما هزّها من اضطرابات اجتماعيّة وسياسيّة عميقة. كان الأمل في تلك الفترة التاريخيّة أن تُنجز الإصلاحات الاقتصاديّة والدينيّة الملحّة بالوسائل السلميّة، بيد أنّ هذا الأمل تبدّد بعد بضع سنوات، إذ اتّضح أنّ الإصلاحات لا يمكن أن تتمّ إلاّ عن طريق العنف والصراعات المذهبيّة، فمستشار إنكلترا الذي أدان الملحدين وحكم عليهم بالحرق قبل أن يقضي هو نفسه في سبيل معتقداته الدينيّة، لم يكن قادراً عهد ذاك على تصوّر مجتمع يراعى فيه التسامح الدينيّ على أوسع نطاق إن لم يوفّق كارل ماركس في شيء فإنّما وُفّق في مقولته المشهورة جداً «الدين أفيون الشعوب»، وكم نعاني نحن اليوم من هذا الأفيون القاتل! .

رغم أنّ مور وضع كتابه في فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة، فإنّه كان واعياً تماماً المشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة التي تستلزم حلاًّ. وإذ لم يكن مصلحاً عمليّاً، كان الحلّ الذي قدّمه في «يوتوبيا» منفصلاً بالكامل عن الواقع. كان حلاًّ بمثابة حلم وهرب من الواقع، وفي الوقت عينه وسيلة للسخرية من المؤسّسات والحكومات التي عاش في ظلّها. كتابه «يوتوبيا» هو كتاب باحث إصلاحيّ متمكّن، واسع الثقافة، غزير القراءات، ولذلك فإنّ المنابع التي نهل منها مؤلّفه لا تحصى ولا تعدّ، ومن أشدّها تأثيراً مؤلّفات أفلاطون وبلوتارك، فضلاً عن كتاب «مدينة الله» لأوغسطينوس. لكنّ «يوتوبيا» مور ليست نسخة عن دولة أفلاطون أو «جمهوريّته»، ولا عن دولة بلوتارك المثاليّة. إنّها عمل أصيل استطاع مور أن يجمع فيه ما تعلّمه من الكتّاب الكلاسيكيّين، وما أدّى إليه اكتشاف العالم الجديد وعصر النهضة من اتّساع في الآفاق.

يعتبر الجزء الأوّل من «يوتوبيا» توماس مور وصفاً للظروف التي سادت إنكلترا في بداية القرن السادس عشر، لكنّه في الجوهر مناقشة لمشكلتين شغلتا عقل مور آنذاك، الأولى مشكلة شخصيّة وتدور حول سؤال: هل عليه الالتحاق بخدمة الملك هنري الثامن الذي ناصب مور أشدّ العداء ؟ بل على نحو أعمّ من ذلك: هل على الفلاسفة مساعدة الملوك بنصائحهم وخبراتهم فيسعون بذلك إلى خدمة الدولة؟ والمشكلة الثانية تتعلّق بإصلاح نظام العقوبات، فتوماس مور كان محامياً أيضاً وعلى معرفة وثيقة بالإجراءات المتّبعة في إدارة شؤون العدل، وكان الإفراط في تطبيق عقوبة الإعدام حتى على جرائم السرقة التافهة يؤلمه بشدّة، إذ كان يرى أنّ هذه العقوبة لا تمنع الجرائم المرتكبة في حقّ الملكيّة وأن تلك الجرائم تزداد يوميّاً. وذاك ما أيّده فيه الفيلسوف والباحث رفائيل هيثلو داي، الذي كان معجباً بفكره وراغباً في اكتشافه ومناقشته، إذ يعتبر أنّه لو التحق، هو أو مور، ببلاط الملك وحاشيته لفقد استقلاليّته ولما خدم المصلحة العامّة، ففي رأيه الحكيم: «معظم الملوك يُشغلون أنفسهم بأعمال الحرب والفروسيّة أكثر ممّا يُشغلونها بأعمال السلم الشريفة، ويهتمّون عامّة بالسيطرة على ممالك جديدة، إن بالحقّ أو بالباطل، أكثر ممّا يهتمّون بأن يحكموا بالعدل الممالك التي يملكونها فعلاً». ويمضي هيثلو داي فاضحاً الرذائل المتفشيّة في بلاط الملوك وعدم اكتراثهم بمعاناة شعوبهم، ملاحظاً كذلك طريقة التصرّف مع اللصوص التي «تتعدّى حدود العدالة، كما أنّها تضرّ بالمصلحة العامّة، فهي عقوبة بالغة القسوة للسرقة، وليست مع ذلك رادعاً كافياً، فالسرقة وحدها ليست جرماً يُعاقب عليه بالموت … في حين كان من الأفضل كثيراً تدبير بعض الوسائل ليكسب السارقون بها لقمة عيشهم، بحيث لا تدفع الحاجة القصوى بالإنسان إلى السرقة، ثم يُعدم نتيجة لذلك» لم يعش هيثلو داي، ولا معاصره توماس مور، ليريا «عدالة» آل سعود الوهّابية المتخلّفة تقطع يد السارق، وهذه عقوبة غير عادلة وبالغة القسوة، في حين يبذّر ملوك مملكة الرمال والنفط أموالهم الخرافيّة على الفحش والرذيلة ويجوّعون شعبهم الذي يقتات من فتات موائدهم العامرة وثرواتهم الطائلة! فمن الذي يستحقّ بالعدالة الحقيقية أن تُقطع يده، بل أن تقطع يداه ورجلاه وعنقه، السارق المعدم الجائع أم الفاحش الماجن؟! .

لمعاصر مور المتنوّر هذا، رافائيل هيثلو داي، الكثير من الأفكار العميقة، فهو يقول مثلاً بالنزعة «اليوتوبيّة» نفسها، مستبقاً زمننا الراهن الغارق في هوس المال وجنونه وفساده: «يبدو لي أنّه حيثما وجدت الملكيّة الخاصة وكان المال هو المعيار الذي يقاس به كل شيء، يكاد يكون مستحيلاً أن يسود المجتمع عدل أو رخاء، إلاّ إذا حسبت أنّ العدل قائم حيث تتدفّق أفضل الأشياء إلى أيدي أسوأ المواطنين، أو أنّ الرخاء يسود حيث تتقاسم قلّة قليلة منهم كلّ شيء، وحتّى هذه القلّة لا تحقّق درجة عالية من الثراء، في حين يعيش الآخرون في شقاء تامّ … ».

فلاسفة إصلاحيّون بذلوا الكثير من فكرهم وروحهم ونزعاتهم الإنسانيّة، وإن مثاليّة وطوباويّة، إلاّ أنّ «الشرط البشريّ» خالف حكمتهم وتساميهم، والأرجح أنّ طباع البشر مفطورة على الطمع والأنانيّة والجشع والقسوة أكثر منها على القيم والمثل التي نادى بها المفكّرون والفلاسفة على مرّ التاريخ… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى