خطّا غاز يرسمان مصير المشرق العربيّ

د. إبراهيم علوش

قصة الصراع بين خط «نابوكو» الغازي التركي، الذي يمر معظمه عبر تركيا من بحر قزوين مروراً بالبحر الأسود ووصولاً إلى النمسا، وخط غاز «المسار الجنوبي» الروسي الذي بات مروره خارج المياه التركية في البحر الأسود ممكناً بفضل سيطرة روسيا على مياه شبه جزيرة القرم، تكملها قصة صراعٍ آخر بين خطي غاز أقل شهرةً وأكثر دموية بكثير: خط «غاز الصداقة» الذي سيربط إيران والعراق وسورية، وخط «قطر-تركيا» الذي كانت سورية رفضت مروره عبر أراضيها. فثمة تتمة جنوبية عربية عنيفة إذن لحكاية صراع خطي غاز «نابوكو»- «المسار الجنوبي» في الشطر الشمالي للبحر الأسود، ومن الطبيعي أن خط «غاز الصداقة» الإيراني- العراقي- السوري سيتصل بـ«المسار الجنوبي» الروسي، وأن الخط «القطري-التركي» سيرتبط بخط «نابوكو» التركي، وهكذا يُرسم صراع الخطين الغازيين، «الصداقة» و«القطري-التركي»، مصير المنطقة بالطائفية والتكفير والدماء.

خط غاز «قطر- تركيا»، بحسب تقريرين لمجلة «ذي ناشيونال» الإماراتية في 26 آب 2009، وفي 18 كانون الثاني 2010، أي قبل «الفورة السورية» و«الربيع العربي»، كان يفترض أن يمر إمّا عبر السعودية- الأردن-سورية بحسب التقرير الأول، أو عبر السعودية- الكويت- العراق بحسب التقرير الثاني في المجلة نفسها. ودفعت سورية ثمن رفضها مرور خط «قطر-تركيا» عبر أراضيها بحسب صحيفة «ذي غارديان» البريطانية في 30 آب 2013 عشية التهديدات الأميركية بضرب سورية بذريعة السلاح الكيماوي! ولا نحتاج إلى الكثير من الخيال لنعرف أن العراق دفع ثمناً مماثلاً… ومن هنا نرى أن ما يربط تركيا وقطر مشروع أنبوب غازي طويل غلافه بعض الإسلام السياسي.

زبدة الحكاية أن حقلاً مشتركاً قطرياً- إيرانياً للغاز الطبيعي في مياه الخليج العربي يقبع ثلثاه تحت السيادة القطرية، وثلثه تحت السيادة الإيرانية، اسمه حقل «شمال القبة» من جهة قطر و«جنوب بارِس» أو فارس من جهة إيران، ويعتبر أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم. ويحتوي هذا الحقل على احتياطيات ضخمة من النفط والغاز يقدر القابل للاستخراج منها بـ16 مليار برميل من النفط و250 مليار متر مكعب من الغاز.

يبدأ خطا غاز «الصداقة» و«قطر- تركيا» من حقل «شمال القبة/ جنوب بارس». فالصراع لا يدور على المنشأ أو المصب، بل على المسار ومن يسيطر عليه. وبالتالي أيُّ الخطين الغازيين وأيُّ حلف دولي سيفرض نفسه على دول المنطقة وعلى العالم، إذا اخذنا في الاعتبار الاتصال الافتراضي لكلٍ منهما بخطي «نابوكو» و«المسار الجنوبي»، وهي معركة دولية، لا إقليمية فحسب.

على سبيل المثال، ذكرت مواقع أردنية في 6 نيسان 2013 أن نائب وزير النفط الإيراني جواد أوجي قال لفضائية «برس تي في» إن خط «غاز الصداقة» مصمم للوصول إلى الأردن ولبنان، ومن يبحث جيداً يجد تقارير عن مسعى إيراني لإنشاء خط غاز عبر العراق لسورية منذ عام 2009. ووقعت سورية وإيران والعراق مذكرة بالأحرف الأولى لإنشاء مثل هذا الخط في 25 تموز 2011، ومن الواضح بالتالي أن اتفاقيات الغاز الأردنية خلال الأشهر الأخيرة مع الكيان الصهيوني، التي وقعتها شركة «البوتاس» العربية و«برومين»- الأردن وشركة الكهرباء الأردنية مع الكيان الصهيوني، عبر شركة «نوبل أنيرجي» الأميركية، إنما تهدف إلى عزل الأردن من المنظور الجغرافي- السياسي عن خط «غاز الصداقة» وربط أمن الطاقة لديه بالكيان الصهيوني. فالبدائل متوافرة بكثرة، إنما الخيار سياسي وهو الاصطفاف مع الطرف الأمريكي- الصهيوني-العثماني.

لنرمِ الآن بمتغيّر جديد مهم جداً في المعادلة: أكثر من 240 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز المثبتة في سورية معظمها مقابل الساحل السوري شرق البحر المتوسط، وهي احتياطيات لا تزال غير مكتشفة بالكامل تفوق بكثير، بحسب التقارير الدولية، ما لدى لبنان والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، مع الإشارة إلى اتفاقية وقِعت في 25 كانون أول 2013 بين سورية وروسيا لتنقيب الأخيرة عن تلك الاحتياطيات واستخراجها لمدة 25 عاماً، وهي كمية من الغاز يكاد يعادل المثبت منها ما في حقل «شمال القبة/ جنوب بارِس»، تحت سلطة دولة واحدة هي سورية، بدلاً من دولتين متعارضتين مثل قطر وإيران.

هذا يعني أن احتياطيات الغاز الضخمة مقابل الساحل السوري، ضمن سياق صراع خطوط الغاز، لا تترك مجالاً حتى لتقسيم سورية أو لإقامة دولة علوية- مسيحية على الساحل السوري، فتركيا الأردوغانية باتت تلعب لعبة السيطرة على الغاز السوري، لا لعبة مسار خط الغاز القطري- التركي فحسب. والهجمات المدفوعة تركياً على ريف اللاذقية لم تكن مجرد تكتيك، فالمطلوب هو الهيمنة على الساحل السوري- اللبناني نفسه وإخراج سورية وإيران وروسيا من المعادلة الغازية. ولو تمكن أوغلو، صاحب المشروع العثماني الجديد، من السيطرة على الساحل السوري- اللبناني وحده، مباشرة أو عبر الأدوات التكفيرية، فربما يرضى بالتسوية السياسية في سورية قبل تأمين كل مسار أنبوب «قطر- تركيا»، حتى يتم الاتصال الناتوي غازياً بين تركيا والكيان الصهيوني. ويشار إلى أن شركة «زورلو القابضة» التركية، التي يرتبط رئيسها أحمد ناصيف زورلو بعلاقات وثيقة مع حزب العدالة والتنمية «الإخواني»، تقدمت في آذار الفائت بعطاء لبناء خط غازي يربط حقل لفيثيان المحتل صهيونياً بتركيا.

بصراحة تامة، الحل هو نقل المعركة إلى الداخل التركي من خلال دعم الأكراد والأرمن والعرب السوريين الواقعين تحت الاحتلال التركي. فتركيا ليست أمة، بل دولة طورانية تحتل قوميات متعدّدة، وهي مرشحة للتفكك أكثر بكثير من دولنا العربية. فإن وقع المحظور وتقدم المشروع الإسلاموي- التكفيري المدعوم تركياً في الشام، فإن أكثر قوة مقبولة جماهيرياً يمكن أن تشكل مكافئاً إقليمياً للمشروع العثماني الجديد، هي مصر والجيش المصري، إلاّ أن ذلك يتطلب موقفاً مختلفاً من العدو الصهيوني يدرك قدر مصر الجغرافي-السياسي في المنطقة منذ معركة قادش في سورية في الألف الثاني قبل الميلاد بين المصريين القدامى والحثيين الأتراك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى