مكتبة «البناء»

يروي الكاتب العراقيّ عوّاد علي في روايته الجديدة «حماقة ماركيز»، «دار فضاءات»، الأردن، 2014 ، سيرة بلد ينزف، بنوع من الرثاء غير المباشر، بعيداً عن البكاء على الأطلال. يستعيد جروح الناس وضياع أعمارهم في صراعات دمّرت مقدرات البلد ودفعته إلى الهاوية. ويهدي عواد روايته إلى روح غابرييل غارسيا ماركيز 1927- 2014 ، واصفاً إيّاه بعملاق الأدب الذي منح قارّة كاملة إشعاعاً عالمياً. ويحضر اسم ماركيز موصوفا بحماقة ما لا تستهدفه، بل هي حماقة بطل الرواية المتماهي معه. فـ«سلمان البدر»، بطل الرواية الحاضر الغائب، متخصّص في الأدب الإسبانيّ، شغوف بماركيز وأعماله، ويحاول محاكاته في حلّه وترحاله، يحمل معه رواياته ويعرّف أصدقاءه بها كأشياء غالية في متحفه الشخصيّ. ينقل عدوى شغفه وتعلّقه بماركيز إلى أصدقائه والمحيطين به، ما دفعهم إلى تسميته بـ«ماركيز» وإطلاق أسماء بعض أبطال ماركيز عليه.

يرصد الكاتب أحوال ثلّة من الشبّان الجامعيين الذين اضطرّوا إلى مغادرة قاعات الدراسة والالتحاق بالجيش إبّان الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة، التي دامت ثماني سنوات وتركت شروخاً عميقة الأثر طوال عقود، إذ لم تستثن أحداً من تداعياتها وإفرازاتها ونتائجها، خاصّة أولئك الذين كانوا في خطوط المواجهة الأولى، وعلى الجبهات، وتأثير ذلك فيهم وفي المحيطين بهم، أو في الباقين بعدهم أحياء في حال غيابهم.

الحرب التي لم يكن لأيّ شخصيّة من شخوص الرواية يد في إشعالها، تكوي الجميع بنيرانها، وتتحوّل إلى كابوس يجثم على الصدور. فبدلاً من استكمال الدراسات الجامعية والعليا، يحتلّ التركيز على السلاح المكانة البارزة، ويغدو همّ الخلاص من أتون الحرب هو المتحكّم والطاغي، خاصة في حالة أولئك الذين تركوا خلفهم آمالهم وطموحاتهم، الحياتيّة والأدبيّة، فالأمل ظلّ يعدهم بأيّام هادئة بعد عنف الحرب. ولا يتوقّف الأمر عند معالجة وتناول مواقف وحوادث على هامش الحرب الأولى، بل ينتقل إلى التذكير بحرب الخليج الثانية والمعارك التي دارت رحاها بين العراقيين أنفسهم أيضا، بين كردستان وبغداد، تلك التي شهدت انتفاضة «سلمان» الذي يفترض أنّه لاقى حتفه في نهايات الحرب. يعود إلى الواقع بما يشبه الحلم أو المعجزة، ويختلط الحلم بالواقع لدى «مراد» و«نورهان» و«فرهاد» و«صوفيا» و«ألماس»، وهذه الأخيرة تصبح غريبة عن نفسها وعمّن حولها إذ تصرّ على أنّ «سلمان» هاتفها وتحدّث معها وأخبرها بأنّه قادم. ويضفي ذلك على الرواية مسحة من الغرائبية فبإعادة الميت من قبره محاولة لكسر نمطية الزمن الكئيب بعد الحرب الوحشية التي ألقت بظلالها على البلد وأهله.

يعود «سلمان» من موته المفترض ويعيد إلى أصدقائه بعض الأمل وتخبّطاً كثيراً، ويمسي أحدهم مشكوكاً في سلامة عقله وفي أنّه على أعتاب الهذيان والجنون، فكيف بميت أن يعود ويتكلم ويعد، وينتظر اللقاء ليقدم التفسيرات المنطقية لحالة غير منطقية.

النعش الهارب أو المفقود لا يضمّ جثمان «سلمان»، بل هو جثمان آخر، في حين أن «سلمان» هو في الأسر، ويصبح ميتاً في نظر الجميع. لكن لدى عودته يصدمهم ويفاجئهم ويكتشف بدوره الكثير من الأمور المفجعة التي لا تقلّ قسوة وإيلاماً عن الأسر.

يترك البطل المغيّب أحلامه بكتابة رواية قريبة من أجواء ماركيز، يوأمل في أن يتاح له إطلاع ماركيز عليها، لكن الحرب تمنعه من تحقيق حلمه وتبعده عن حبيبته التي تتزوّج وتنجب ابنة تسميها «صوفيا»، تيمّناً باسم شخصيّة من «مئة عام من العزلة» لغبريال غارسيا ماركيز. وتكبر «صوفيا» الصغيرة على الشغف بأعمال ماركيز، ينتقل إليها الحبّ والتمرّد. تبحث لنفسها عن مستقرّ آمن بعيداً عن الأوضاع المتفجّرة في بلدها. العائد من الموت لم يمت في المعركة على الجبهة، على ما أُعلن. كان أسيراً طيلة سنوات طويلة في معسكر ناء في إيران. ويعود إلى بلده ليشهد التحوّل الكبير الذي أصابه وانتقاله من براثن نظام شموليّ إلى أتون عنف طائفيّ لا يرحم. والخاتمة سورياليّة، إذ حين يصاب على هامش تفجير وما تلاه من إطلاق نار عشوائي. صرخة «نورهان» وموتها دلالة على تداخل السحريّ بالواقعي لإنتاج عالم روائيّ.

الحماقة التي يضيفها الروائي إلى ماركيز ترمز إلى حماقة البطل المتماهي مع ماركيز في واقعيته السحرية، وتكمن الحماقة التي تمهّد لسلسلة من الحماقات في التحرك دونما احتراس على خط الجبهة، ووقوعه في مرمى نيران الأعداء، وبعد ذلك افتراض موته. ولدى نقل جثمانه يضيع التابوت، أو يهرب الميت، أو يسرق، فتغدو الأحجية مثيرة للتساؤلات ومدعاة للاستغراب والسخرية في الوقت نفسه.

ينتقل علي بأبطاله من حرب إلى أخرى، وصولاً إلى بداية الاحتلال الأميركيّ وإسقاط نظام صدّام حسين، وما تبعه من انقسام بين العراقيين أنفسهم ودخولهم معمعة عنف وحشيّ غير مسبوق، بحيث أنّ الحرب الكبرى بين الدولة والدول المجاورة، أو بين النظام ومعارضيه، انتقلت إلى عنف متبادل بين أبناء البلد الواحد. حلّ التناحر مكان التقارب، والتباغض محلّ التوادد، وأصبح البلد فرقاً متحاربة. انتشرت الفوضى والمحسوبية، وانتقل العراق إلى مستنقع طائفيّ بعد مستنقع الاستبداد والظلم والطغيان وكوارث الحروب وأهوالها.

يعيد الكاتب عواد علي التذكير ببوادر الانتفاضة الكرديّة ضدّ نظام صدّام مطلع التسعينات وما تبع ذلك من إجراءات دوليّة، وفرض واقع جديد على المنطقة، وبداية عهد جديد للعراق، رغم أنّ الآليّات ظلّت تدور في فلك الوقائع نفسها، وما تلا ذلك من حوادث مفصلية. كما يبرز في «حماقة ماركيز» سوريالية الرواية وغرابة الواقع، في ظلّ واقع يتفوّق في غرابته وسورياليته على أيّ خيال أدبي، والتحليق بالخيال في تناسب عكسيّ مع التعمّق في الواقع، ودواخل ضحاياه التي تبقى جثثهم ملقاة على قارعة الطريق ومنفتحة على الهواجس والمخاوف التي لا تنتهي، في موازاة هواجس الأمس، والحاضر، بكلّ ما فيه من تخبّط وصراع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى